غير مصنف

عشق القضبان


قصة تأليف: د.ناصر صبحى
هربت سماح من سوء معاملة زوج الأم لها مما اضطرها إلى أن تترك المنزل وتترك الأم الضعيفة والتي قوى المرض عليها وقهرها من تكرار الحمل والولادة حتى أنجبت خمسة من الأطفال من ذلك الأب الشرس الذي يعمل يوما ويجلس على المقاهي يوما آخر بالرغم من براعته ومهارته في فن دهان المنازل ، إلا أن كثرة المشاكل وطلبات خمسة أطفال وأمهم وابنة الأم منحته شيئا من اللامبالاة والاستسلام لما هو أسهل من تحمل المسؤولية تجاههم.
تركت سماح كل ما ورائها من أخواتها من الأم والتي كانت تحبهم كثيرا وفضلت أن تبتعد بعيدا عن تلك المشاكل وتعنت زوج أمها دائما معها وإجبارها على العمل في أرديء المهن من اجل المال وتناسى أنها ابنة العقد الثاني من عمرها ولم تستطيع أن تكمل دراستها الجامعية وتحقيق أحلامها واكتفت بحصولها على الثانوية العامة لتلك الظروف القاسية.
وها هي سماح تذهب صباح يوم أشرقت فيه الشمس في وهج الصيف داخل إحدى محطات القطار لتحجز تذكرة من الدرجة الثالثة كي توفر ما يتبقى معها من نقود باهظة أوشكت على الانتهاء وهى في بداية رحلتها التي لا تعلم إلى أين تمضى؟ والى أين يكون مصيرها؟
جلست داخل القطار على كرسي بجانب الشباك لتميل على هذا الجانب برأسها وإلى الخلف وتغمض عينيها من شدة التعب كأنها ترمى ورائها هموما سيدة الخمسين عاما .
ويتحرك القطار بسرعته الهائلة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال في اتجاهه إلى محطة رمسيس والدموع تنزل من عينيها .
ومن شدة حركة الرياح وسرعة القطار استيقظت سماح على مشاهد الأشجار وحقول القصب التي على جانبي الطريق وهى تفكر كيف تتدبر أمرها ؟ وماذا سوف تعمل؟ وما هو مصيرها المجهول في ذلك العالم المليء بالذئاب البشرية التي لا ترحم ولا تخاف الله؟
وسرعان ما هدأت سرعة القطار شيئا فشيئا لتجد سماح نفسها في إحدى المحطات التي بالطريق حتى يركب أناس وينزل آخرين منه .
وسرعان ما تلتفت سماح بنظرها لتجد قطارا آخر موازى لذلك القطار الذي تركبه يقف على الرصيف الآخر عكس الاتجاه فهو يتجه من الشمال إلى الجنوب وإذ هي تمد نظرها لتجد شابا وسيما أنيقا يجلس بجانب الشباك بالقطار الآخر ولكن بدرجة أعلى من الدرجة التي هي تركب فيها مما يدل على إثرائه ماديا .
وتنظر إليه سماح بنظرات انبهار كأنها وجدت فتى أحلامها الذي سوف يخلصها من كل مشاكلها وكل ما عانت منه من مرارة الزمن.
والغريب في الأمر انه في تلك اللحظة تقع عين ذلك الشاب عليها وينظر لها نظرات تأمل وإعجاب بوجهها البشوش الناصع البياض وملامحها البريئة وعيناها الملونة والتي تنبعث منهما شعاع يجذب إليها كل من تقع عينيه عليها.
استمرت تلك اللحظات التي تتلاقى فيها أعين ذلك الشاب الوسيم مع تلك الفتاة الحسناء سماح صاحبة الحظ القليل من الدنيا.
شعرت سماح من خلال نظرات ذلك الشاب انه يجاريها بنظرات الإعجاب التي تتبادل معه نفس الشعور من شباك القطارين الذي يمكث كل منهما في قطاره وتفصلهما مسافة القضبان الحديدية بجانب الرصيف ، كما شعرت بشعاع أمل بل يكاد بصيص من النور أرسله الله لها في تلك اللحظة التي ضاقت فيها الدنيا كي ينتشلها من براثن الفقر والقهر .
وهنا ذهب كل منهما بعيدا بخياله أثناء اختلاس النظرات فيما بينهما والتي تطورت إلى التأمل فيها وعندئذ شعر ذلك الشاب الوسيم أنها تحادثه وتريد أن تعرف كل شيء عنه فأطلق العنان لنفسه أمام نظرات أعينها الفتاكة الساحرة ليقول لها في خياله :

  • حاتم من القاهرة ثلاثون عاما درست إدارة الأعمال والحمد لله طبقت ما درسته وأصبحت رجل أعمال ناجح رغم صغر عمري ولى عدة مشروعات على مستوى مصر ومنها داخل الصعيد بالجنوب والذي أسافر إليه الآن كي أتابع احد المشروعات التي املكها هناك.
    وكأن تلك الكلمات التي كانت بخيال حاتم خرجت لتصل إلى سماح أثناء تبادل النظرات بينهما قد فهمت انه يريد قول شيء هام لها ، فأسرعت وبادرته الاهتمام بنظراتها وتبادلت معه السرحان بخيالها كي تتحدث معه عن كل ما تريد أن يعرفه عنها:
  • سماح عشرون عاما أنهيت مرحلة الثانوية بتفوق وكان حلمي أن أكون مهندسة ولكن الظروف العائلية البائسة حالت بيني وبين تحقيق طموحاتي ، وحياتي كلها جحيم من بعد وفاة أبى رحمة الله عليه، وتزوجت أمي من رجل حرفي لصغر عمرها كي يقوم على تربيتي ولكنه أنجب منها خمسة أطفالا في أعمار مختلفة فكنت أنا عبئا عليهما، واضطررت أن اعمل بائعة في محلات ملابس ولكن الدنيا لا ترحم أحدا، فقد كان زوج أمي يعاملني كأنني عالة عليه ويجب أن أعطيه كل ما أتقاضاه من العمل وإلا ينهرني ويضربني ، وأمي سيدة أنهكها كثرة الحمل والولادة المتكررة حتى أن ضعف جسمها وأصبحت واهنة ولا تستطيع أن تقف أمام زوجها أو تصده وتحميني منه، فقررت أن اهرب ولا اعرف إلى أين اذهب أو أي مصير لي ينتظرني، فحقا هل أنت منقذي من الضياع أيها الشاب الوسيم ذو النظرات ولأخلاق الرفيعة؟
    حاتم لنفسه في خياله وبعد نظرات ملتهبة:
  • نعم أنتي التي ابحث عنها أيتها الملاك البريء وبالرغم من معرفتي بالكثيرات نظرا لظروف عملي إلا أن نظراتك ووجهك هي التي تراودني في أحلامي وكنت ابحث عنها طيلة تلك السنوات الماضية، فكلنا يلعب القدر بنا دون أي تدخل منا فهو يتحكم في ظروفنا المادية والاجتماعية والثقافية ، فكل منا لم يختار ظروفه وحياته فهل تقبليني زوجا لكي أيتها الرائعة؟
    سماح تبتسم بنظراتها إليه الغير عادية وكأنه فهمت ماذا يريد؟ لتزيد من خيالها وتقول لنفسها :
  • نعم يا حاتم فأنت الملاك الذي أرسله الله لي ليبدل حياتي من يأس وشقاء إلى سعادة وهناء فأنت سوف تكون لي الزوج والأب والأخ وكل ما حرمت منه وسوف أعمل جاهدة بكل ما بوسعي على إرضائك يا زوجي الحبيب.
    وهنا في تلك اللحظة تزداد نظراتهما لبعضهما البعض حبا وشوقا ولهيبا وتمنيا بحياة سعيدة تملؤها الاحترام والتفاهم والثقة والمحبة والإخلاص، ليسرح كل منهما أبعد بكثير مما يتصوره أي إنسان حتى يصلوا إلى زواجهما، وإنجاب الأطفال من حاتم وتقوم سماح على رعايتهم في المنزل وملابسهم وإطعامهم الإفطار وتوصيلهم بالخارج ليأخذهم السائق إلى مدرستهم الخاصة وسماح سعيدة بتلك الحياة الجديدة.
    وفجأة تنتبه سماح وهى جالسة في القطار وتسمع صوت صفارة شديدة بالمحطة إعلانا عن بدء تحرك القطارين بسرعة عكس بعضهما, وتكتشف وقتئذ أن كل ما حدث لها من حياة سعيدة وسنوات هي مجرد لحظات ودقائق خيال داخل محطة القطار، وهنا ينظر إليها حاتم النظرة الأخيرة وتبادله سماح أيضا بالنظرة الأخيرة ثم يتحرك القطارين أحدهما إلى تجاه الجنوب وبداخله حاتم والآخر إلى تجاه الشمال وبداخله سماح حتى يتلاشى القطارين ويذهب كل منهما إلى حال سبيله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى