فن ومنوعات

حكايات| استقلال زفتى 1919.. ليلة لم تنم فيها لندن

كتب: سامح أيوب

لسنوات طويلة ظلت قرى مصر تتلقف واحدة تلو الأخرى ملحمة يقف أمامها التاريخ كثيرًا إلى أن أمسك بها الممثل الكوميدي الشاب علي الكسار لينسج حولها مسرحية ناجحة حاملة اسم ضحكة واسعة على المستعمر الإنجليزي.. «جمهورية زفتى.. ترحب بكم».
حين رُفع الأذان الأول لثورة 1919 في التاسع من مارس، ودقت أجراس كنائسها في قلب القاهرة، كانت زفتى وميت غمر أول من أقام صلاة الوحدة الوطنية، مقدمة ثوار من نوع خاص، تطرب لها الآذان حين تسمع حكاياتها وتبتسم أمامها الشفاه لروعة القصص وتدمع الأعين من شدة الفرحة.
فحين أضرب سائر طلاب المدارس وسائقو الترام والأتوبيسات والمحامين، وسجل قسم السيدة زينب أول شهيد مجهول الاسم لثورة 19 في اليوم التالي، وصدور أول بلاغ حربي يطلق على الثور اسم «الرعاع»، كان أهالي قرية زفتى يعزفون سيمفونية وطنية سمعها أهل لندن جيدًا وطارت عقولهم معها من هولها.

الأَخَوان_الجندي.. من شباب سعد

حين كانت زفتى وميت غمر قريتان متقابلتان يفصلهما النيل ويربطهما كوبري عتيق، كان هناك مكتبي محاماة لشقيقين شابين يوسف الجندي في ميت غمر وعوض الجندي في زفتى، وكلاهما من شباب سعد، وما إن انفجرت الثورة في قريته زفتى حتى بدأت أنظار القرويين تتجه إليه في انتظار أن يصنع شيئًا.
في كتابه «أيام لها تاريخ» رسم أحمد بهاء الدين خريطة الوضع في زفتى.. «لكن ها هنا في جوف الريف لا يوجد إنجليز يقاتلهم الفلاحون، والسكك الحديدية قد قطعها المزارعون من القرى المجاورة، ومع ذلك فلابد من عمل شيء خطير ينطوي على معنى الثورة».
وبالفعل قرر يوسف إعلان زفتى وميت غمر استقلالهما، وأن ترفضا الخضوع لأية سلطة أخرى، ثم فليأت الإنجليز. وبدأ الثائر الصغير.

مقهى_يوناني.. قصر الحكم

في زفتى تم تشكيل لجنة للثورة من بعض الأعيان والأفندية المتعلمين والتجار الصغار، كان من بينهم: «عوض الكفراوي، الشيخ مصطفى عمايم، إبراهيم خير الدين، أدمون بردا، محمد السيد، محمود حسن.. واتخذت لجنة الثورة مقرًا لها قاعة واسعة في الدور الثاني من مقهى يملكه يوناني عجوز ايمه «قهو مستوكلي».
ورغم توالي المفاجآت على أرض زفتى إلا أن المفاجأة الأكبر فكانت تجنيب الدولة الجديدة إراقة الدماء، فمأمور القسم كان وطنيًا اسمه إسماعيل حمد ومعه معاون بوليس اسمه أحمد جمعة، وخرج المأمور إلى المظاهرة، وسلم المركز بسلاحه وقيادة الجنود والخفراء، ثم عرض تولي منصب مستشار الدولة الجديدة.
ومن البوليس اتجهت المظاهرة إلى محطة السكة الحديد والتلغراف فسيطرت على التلغرافات فورًا واستولت على عربات السكة الحديد التي كانت واقفة مشحونة بالقمح، تنتظر إرسالها إلى السلطات الإنجليزية.
ليس هذا فحسب؛ بل واجهت الدولة الجديدة مشاكلها الداخلية، بتشكيل خزانة قائمة على التبرعات، تتولى خلق فرص عمل للأيدي الكثيرة التي تعطلت لظروف الثورة، فلا تتحول إلى السرقة أو النهب.
وسارع هؤلاء القرويون أيضًا إلى ردم البرك والمستنقعات التي تحيط بالقرية والتي يئس الأهالي من مطالبة الحكومة بردمها منذ عشرات السنين، إضافة إلى ردم الشوارع التي كانت تنشع بالماء إذا كان الفيضان، وأصلحوا الجسور القريبة، ووصل الأمر إلى إقامة كشكا خشبيًا على ضفة النيل لتعزف فيه الموسيقى.

مراقبة_الحدود

لم تكتف اللجنة الثورية بذلك؛ إذ أسندت إلى كل التلاميذ والمتعلمين في قرية زفتى عملية القيام بدورات مستمرة لحفظ الأمن، ومراقبة الحدود لمنع تسرب مواد التموين أو دخول الجواسيس، والإشراف على الري.
وظهر في قلب زفتى مطبعة صغيرة يملكها محمد أفندي عجينة أخذت تطبع قرارات لجنة الثورة وتعليمات وأخبارها وتوزعها على الناس، وظلت تلك المطبعة مؤسسة وطنية خطيرة في حياة زفتى، فتصدت إلى مسؤولية طبع المنشورات السرية في مختلف عهود الأقليات.

جنون_لندن

طارت أنباء استقلال زفتى إلى القاهرة، وعبرت البحار إلى لندن، ونشرت صحيفة التايمز في صدرها أن قرية زفتى أعلنت استقلالها، ورفعت على مبنى المركز علما جديدًا.
ولم يكن نفوذ زفتى مقصورًا على حدودها، فقد كان بريق مقاومتها يرسل ضوأه إلى القرى المجاورة، ففي أحد البلاغات الإنجليزية الرسمية يعلق على مذبحة ميت القرشي التي راح ضحيتها 100 قتيل: «ميت غمر لا تزال مع زفتى وميت القرشي مركزًا للتمرد والفتن في هذه المنطقة».
ومن القاهرة تم الإعلان عن إرسال فرق كبيرة من الجنود الاستراليين إلى زفتى لإخضاع القرية الثائرة، فقابل الفلاحون هذا القرار بحفر الخنادق حول دولتهم ونقلوا البنادق القليلة والذخائر العتيقة التي لم تستعمل منذ زمن بعيد استعدادًا للقاء الإنجليز.
وما إن سطعت الشمس حتى وجد الأهالي مدافع الاستراليين منصوبة وفوهاتها مسددة إلى بيوت القرية بعد أن احتلوا فعلا محلج رينهارت ومدرسة كشك الواقعين على أطراف القرية؛ لكن القرية بعثت بوفد يتحدث إلى الاستراليين، قال لهم: «الثورة في مصر بدأت تهدأ مع الإفراج عن سعد زغلول، وأي طلقة الآن ستؤدي إلى اشتباك، فإذا ظل الجنود معسكرين خارج زفتى وتركوا حركة الوفد ماضية فهذا فيل بألا يقع من الفلاحين شيء.

كوميديا_مصرية

وما إن سكنت ثورة 19 في مصر كلها، وباتت قري زفتى تحت رحمة المدافع الإنجليزية، استيقظ الخونة، الذين خافوا مغبة دخول المستعمرين فأردوا أن يتنصلوا وأخذوا يرسلون خطابات إلى السلطات يبلغون عن أسماء الزعماء.
لكن إسماعيل حمد بخبرته الإدارية كان يعرف ما سيحدث فكان ينفرد بالخطابات البريدية كل ليلة في غرفة مغلقة يفضها واحدًا واحدًا ويتخلص من كل رسالة تنطوي على وشاية أو كيد.
وعلم الإنجليزي أن الفرقة الاسترالية لم تدخل زفتى فأرسلوا تعليمات بضرورة تسليم 20 رجلا من القرية لجلدهم عقابا على العصيان، وانعقدت اللجنة لتواجه المأزق وبعد بحث طويل أخذت اللجنة باقتراح إسماعيل وسلمت الـ 20 رجلا واختارتهم من الذين كانوا يرسلون خطابات الوشاية والخيانة إلى الإنجليز.. وجلد الإنجليز عملاءهم.
أما قهوة مستوكلي فقد اندثرت مع الزمن وقامت مكانها بعض المحلات التجارية، وأما كشك الموسيقى فظلت مدينة زفتى محتفظة به في مكانه القديم رافضة محاولات هدمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى