مقالات

تامر المهدي يكتب: ماذا حدث للمصريين؟

سؤال جدي في زمن هزلي، جرب أن تسأله لأحد المارة بطريقة عشوائية، ستتهم بأنك تعاني من الفراغ وربما ستتهم بأنك تريد الشهرة لأنك بحسب الوصف الدارج حاليا “عميق”، “أيه العمق ده يا زميلي”، وكأنك تغني لمجموعة من البكم.
«إن الشاب الصفيق من هؤلاء يتعمد الوقوف على رصيف الترام بالقرب من المكان المخصص لركوب السيدات، وعندما يجد سيدة تقف بمفردها يقترب منها بمنتهي البجاحة ويقول لها دون سابق معرفه (بنسوار ياهانم)».
هكذا وصف فكري أباظة، ابن محافظة الشرقية، المحام والكاتب الصحفي والبرلماني، عام ١٩٣٢، شكل التحرش في مصر.
“ماذا حدث للمصريين؟” عنوان لكتاب يشرح المجتمع المصري، وهو تساؤل أزعج كاتبه، جلال أمين، ومن هنا غاص في أعماق المجتمع المصري باحثا عن الأعراض للوصول لعلاج الأمراض والتقلبات المجتمعية، وكيف التصقت كلمات “ريس وباشمهندس ودكتور” لأصحاب مهن أخرى فالمهندس تقال للميكانيكي والدكتور لمن لم يحصلوا عليها والريس تقال تفخيما لأي أحد.
أعلم أن المقدمة ربما تشير إلى أن مقالي سيتوقف عند حقبة تاريخية مصرية وانتهت، بالعكس تماما، فإن نظرة سريعة على تاريخنا، ستجيب عن السؤال الذي يحتاج إلى سنوات للوصول إلى إجابات تعيد الطبيعة المصرية الأصيلة.
كنت أقسم لأحد أصدقائي قائلا: لو عادت السيدة أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وغيرهم من منابع الفن المصري والعربي إلى وقتنا هذا، لفشلوا فشلا ذريعا، أمام موجة بيكا ورفاقه، فالمزاج المصري تحول تماما.
“الموسيقى دي هتفضل شغالة كام يوم؟” جملة قالها طفلي كريم وقت استماعي للمقدمة الموسيقية لرائعة أم كلثوم “فكروني”، حاولت أن أشرح لطفلي ولكني فشلت، فكيف أمنع عنه ما يبث على الانترنت والأصوات التي تحاصرنا من التكاتك والأفراح بل وفي الفضائيات؟!
توحد الشباب والأطفال والكبار أيضا مع هواتفهم الذكية، مع التطبيقات التي تعتمد على اللقطات المصورة في المنزل والشارع، لم يعد هناك خصوصيات لتحترم، فكل شيء مباح طالما ستزيد من عدد الاعجابات والمشاهدات، والحصول على أموال من هذه التطبيقات.
من المتسبب في قتل الفن الجميل، اين ذهبت مسارح المحافظات والروايات والكتب وباعة الصحف والصالون الثقافي وزيارات الكتاب والمفكرين والأدباء، رغم قناعتي التامة بأن لدينا كتاب وأدباء ومفكرين لكن الجمهور هو الذي اختفى عنهم تماما، واستعاض عنهم بهوامش الانترنت والمهرجانات.
“الألش” تلك الكلمة التي ليس لها أي معنى في كل قواميس العالم، إلا في مصر فهي تعني السخرية، وهي كلمة حلت محل “النكتة” التي اشتهرت بها مصر والمصريين، وأصبحنا في زمن “الألش”، جرب ان تكتب هذه الكلمة في جوجل ذلك البئر الذي لا يحتوي على قاع، فالباحثين عن الألش وشاهد قبل الحذف كيف تحضر عفريت في المنزل وكيف “تشقط” فتاة.. هم قاع هذا المحرك الشهير، فلا تفزع إذا عرفت أن أكثر كلمات البحث هي “مهرجان …..”.
حتى الصحافة التي تربينا عليها وعلى آراء كتابها، وإدراكنا قوة الكلمة ومعانيها وكيف تؤثر في مجتمعات، أصبحت تنافس الفيسبوك وتحاول اللحاق بالمهرجانات “الدخلاوية” وانتهاك خصوصيات الجميع، ذهبت أخلاقيات المهنة والقيم الصحفية الأصيلة، من اجل زيادة عدد قراء خبر زواج أو طلاق أو حوار صحفي مع بيكا ورفاقه، أو من أجل البث على الإنترنت لحوادث القتل والذبح، والمخجل أيضا ذلك البث المباشر لأحد أهم الصحف المصرية في قضية هتك عرض طفلة في أحد المحافظات: صفي لنا ما الذي حدث معك بالتفصيل وما شعورك حينها؟
ومن غرائب مهنة الصحافة، أن مسؤولي الصحف والقنوات الفضائية الإعلامية الذين يجذبون ملايين المشاهدات والقراءات ضد مباديء المهنة، يتصدرون مشهد تطوير الصحافة واستعادة أخلاقيات وأصول المهنة!!
التاريخ والأصول والثوابت والأخلاق والفن والقراءة و…………. تمشي فوقهم “أستيكة” المهرجانات وانعدام الأخلاق والألش والجهل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى