مقالات

عماد نصير : يكتب – الأخذ بالأسباب والعلم.. بين التراث والحداثة

 

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) .. قانون سماوي وضعه الله سبحانه وتعالى دستوراً لعباده في رحلتهم لعمارة الأرض التي استخلفهم فيها، ليعلموا أن طلب الأمور لابد له من طريق وأسباب ومعرفة، وأن العلاقة الربانية بين العبد وخالقه لابد لها من سبيل من خلال اتباع ما نزل على رسل الله كافة، وأن تمام معرفة الله تأتي من الإحاطة علمياً بما خطه الدين السماوي من قيم ومعايير، وأن الدين يأمر بتعلم العلم وليس بناء الصوامع والانعزال فيها، مصداقاً لقوله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، فبالعلم بعظم قدر الله يأتي تمام العبادة، الذي هو في الأصل تمام المعرفة.

والقرآن الكريم قد ساق إلينا العديد من الأمثلة التربوية والتعليمية في الأخذ بالأسباب، فهذه السيدة مريم في رحلة وضعها للسيد المسيح عليه السلام، وبالرغم من حملها بمعجزة، وما أيسر ما دون ذلك على الله، إلا أن القرآن يخبرنا بالأمر لها أن تسعى وتأخذ بالأساب كأي إنسان عادي، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ  تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)، أمر سماوي لها أن تهز النخلة فتسقط عليها الثمار فتأكل وتشبع وترضع مولودها، حتى وإن كانت طاقتها وقوتها البشرية لن تستطع أن تؤثر في تحريك النخلة، إلا أنه قانون الأخذ بالأسباب يجريه الله حتى على الصفوة من عباده.

وهناك العديد من الأمثلة والأوامر الإلهية في الأخذ بالأسباب منها مثالاً لا حصراً، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾، وقوله تعالى عن ذي القرنين (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا) وقوله تعالى مخاطبا سيدنا أيوب (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)، وغيرها الكثير والكثير من الأمثلة القرآنية في الخطاب للأنبياء والعباد على حد سواء في ضرورة الأخذ بالأسباب، وأن رزق الله لا يطلب إلا بسبب وسببه هو العلم والمعرفة بماهية المطلوب وطرق طلبه، إما بتعلم الحرفة أو الصنعة أو تعلم العلم التجريبي الذي آتاه الله للبشرية، ويسر لهم سبل الوصول إليه، وأنه لا تعارض مع التدين وطلب العلم مطلقاً، وكما يقال لو نزل البحر سباحاً غير مؤمن ومؤمن لا يتقن السباحة حتماً سينجوا فقط صاحب المعرفة والعلم، لأنه أخذ بأسباب النجاة فتعلم السباحة، والله سبحانه وتعالى يقول (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، في إشارة واضحة للعلم والمعرفة.

فقانون الأسباب والمسببات قانون شمولي عام، وهو قانون في غاية الدقة والإحكام، بحيث لا يخرج عن حدوده مخلوق أيّا كان موقعه، هذا الخضوع التام من الجميع ما هو في الحقيقة إلا خضوع للخالق واضع هذا القانون، وصاحب هذه السنة الكونية (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا).

والعدل الإلهي قائم على تلك السنن الكونية التي تحكم هذا الكون بأمر الله، فأيما أمّة عرفت هذه السنن، واحترمت عقولها، وقدّرت العلم الذي هو الطريق الأول لتطبيق تلك السنن سادت وقادت العالم، ولو كانت تلك الأمة غير معترفة بدين سماوي مطلقاً، طالما أخذت بتلك الأسباب الكونية.

وما نراه اليوم من تأخر المسلمين إلى أن أصبحوا في ذيل الأمم، ما هو إلا عدل رباني وتطبيقا لسننه الكونية والتاريخية المعروفة، والتي سيقت إلينا في أمثلة عدة، ولأن من يطبق العدالة بمفهومها الواسع سواء على مستوى الفرد أو المؤسسة، فإنما يؤسس لسنة كونية تضمن له التقدم والرقي في الدنيا، وما ذلك إلا أخذاً بمخرجات العلم ووسائله الحديثة، والتي باتت تشمل مختلف مناحي الحياة، أو نفياً لنتائج تلك العلوم وتجاهلاً لها، فهاهو علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجبر وعلم الهندسة وعلم الطب، وكلاها متداخلة مكملة وغير متعارضة المساق ولا السياق بحال من الأحوال، وتكوّن في مجموعها كيان يعتمد على مخرجات العلوم الحديثة وتفاخر بها، وجميعها تخدم البشرية وهو عين ما ينادي به الدين في قوله تعالى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).

هذان هما خطا الإرث والمعاصرة في أمثلة بسيطة وموجزة، لا نجد من خلالها أن السعي والأخذ بالأسباب وطلب العلم والمعرفة والتدراس والبحث العلمي، في تعارض أبداً مع خط الدين، فنحن مأمورون بأن نعلم ونتعلم ولا نكتم علماً، وذلك بنصوص دينية صريحة، بل هناك تهديد ووعيد لمن لم يمرر العلم لغيره، أو يجعله حكراً عليه ولم ينفع به أو يورثه لغيره لينفع به الناس، لقوله صلى الله عليه وسلم (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار).

ومن تمام اتباع منهج النبوة أن نتعلم ونعي ما نتعلمه ونطبقه على حياتنا اليومية حتى نضع أنفسنا وأمتنا وقوميتنا وبلادنا في مكانها الصحيح، فالقوة التي يحترمها العالم ويصنف على أساسها الدول بعالم ثالث ودول نامية وما إلى ذلك من مسميات، لها أكثر من صفة وهيئة، لعل أهم صورها هوما يعرف بالقوة الناعمة، وهي ما وصفه جوزيف ناي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفرد، بقوله (القوة الناعمة هي قدرتك على جعل الدول أو الناس يرغبون فيما أنت راغب فيه، دون استخدام القوة في جعلهم يتبعوك).

وبالنظر إلى هذا المفهوم المعاصر والحديث لا نجد أنه ببعيد عن الإرث الديني، فالحديث الصحيح يقول (طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ)، والدول لا تتقدم ويعلوا شأنها إلا بالعلم، والقوة كما أسلفنا من صورها القوة الناعمة، التي تستعملها الدول من خلال الضغط بورقة الصناعة او التجارة أو التصدير وما إلى ذلك، وكلها تخرج من بوتقة العلم والعلم وحده، فالواقع يخبرنا عن مجتمعات تعج بالخيرات والثروات الطبيعية، إلا إنها مجتمعات فقيرة لأنها فقيرة بالعلوم والعلماء وليس بالثروات الطبيعية.

هنيئاً لمجتمعات جعلت من العلم صناعة، وحجزت لنفسها مكان ومكانة بين كبريات الدول والكيانات الكبرى التي سلكت طرق العلوم، والباب ما زال مفتوحاً بشغف أمام غيرهم، ومجال حقل العلوم واسع وفسيح ورحب، وبإمكانه أن يستوعب المزيد والمزيد من الراغبين في النهضة العلمية والنهوض بشعوبهم بالعلم والمعرفة، حتى تكون المعرفة إحدى أشكال وصور تجارتهم، وحتى يضيفوا إلى عناصر قوتهم قوة إضافية، لكنها هنا القوة الناعمة.

نلقاكم في قعدة عرب أخرى

عماد نصير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى