مقالات

الشاعر جمال الدربالي.. من قريب

بقلم: عبد الستار حتيتة

بعينين واسعتين متقدتين. وبشارب يزين وجهه المستدير. هكذا يبدو وسيما بربطة عنق حمراء. هكذا يخطو من آخر شارع الإسكندرية. يقف نحو ساعة إذ يجيب على أسئلة العابرين.. مرة أمام بقالة فرعاص.. مرة في زوايا دكاكين مريزيق. إنه الشاعر جمال الدربالي (1).  

هذه إطلالة مسائية. وفي الليل يتماهى مع أحلام العرب المجهضة، ومع أبيات الشاعر أمل دنقل(2) عن الفقراء وعن الجموع الضائعة. وفي الخلفية تنساب موسيقى تشايكوفيسكي(3)، وتتردد بين شفتيه مقاطع من قصيدة “البردة”(4).

كان الدربالي مثل نغمة كونية مرتبطة بمركز ثابت في الأرض.. ألا وهو مرسى مطروح ببحرها وصحرائها، وبمحيطها العربي الممتد من هناك إلى هناك.. يخطو في طرقات المدينة. ويردد بعضاً من أبياته الأثيرة:  

“مطروح ليست أغنية..

مطروح أشباح وظل..”

وفي النهار ينكب على عمله في بنك القاهرة، ويدقق في كل ورقة وفي كل رقم كأنه مبتدئ. إنه عالم الحسابات الذي لا يحتمل أي خطأ. ومن خلف النافذة الزجاجية، من أعلى رؤوس العملاء، ومن بين حقائب الأموال، تراه يرص الأوراق حسب التواريخ بعناية، وبجواره طنين ماكينة عد الفلوس. طنين لا يتوقف.. يعمل بجد، كأنه لم يسهر حتى الفجر في فضاءات التيه عبر العالم. كأنه لم يتلو مقاطع من أشعار بابلو نيرودا(5)، وكأنه لم يستمع لأغنيات عوض المالكي(6)، وأبيات إبراهيم عبد السميع(7).     

كان جمال الدربالي رجلاً بدوياً. أي من أولئك الذين لديهم القدرة على الاستغناء عن كل شيء، وعن أي شيء، في أي وقت. حين تراه، تراه يعبر في الدرب الترابي الطويل. ولا يلتفت خلفه. لم يكن هناك غير الفراغ والألم والحزن العميق. فلماذا تنظر إلى الخلف إذا كانت توجد فيه المتاعب نفسها التي تنتظرك في الأفق؟!

كان النهار طويلاً، والشمس حارقة.. كانت الصحراء واسعة. ونبات العوسج بأشواكه الناشفة يظهر على حواف الوديان ويختفي.. حين يصل إليه، يبدو هذا النبات الصحراوي بسيقان ترتفع بطول رجُل، وبأوراق متدخلة خضراء تميل إلى اللون الأصفر.. يبدو كملاذ!

يقول في قصيدة بعنوان “ليل وعوسجة تئن”:

“لوز وتمرات وكأس من لظى

خيط على عنق رخامي

يسافر في القمر

ويعود في ساعات الرعاة” 

عمل جمال الدربالي كمحاسب.. ثم كمحامٍ، إذ تخرج فيما بعد في كلية الحقوق جامعة الإسكندرية. وكتب مئات القصائد المبعثرة الآن في أماكن شتى. ولم يتمكن خلال حياته إلا من طباعة ديوان وحيد في 1999 عن طريق الهيئة العامة لقصور الثقافة (فرع مرسى مطروح)، اسمه “لقيتك نصف مملكة من الجن”.

حين تهب رياح الخريف ويخيم الليل على مرسى مطروح، يختفي الناس، ولا يبدو عبر الشوارع المقفرة الطويلة غير خيال جمال الدربالي. يمشى الهوينى. ويردد بعضاً من تلك الأبيات الأثيرة:  

“مطروح ليست أمنية..

مطروح ليست أغنية..

مطروح ليل ساحر الإظلام قفرُ..

مطروح لها..  

في القلب أنياب وظفر..

مطروح جوعٌ مذ بدت..

مطروح جوعٌ لم تزل..

مطروح لو صدق الضمير لساعةٍ..

مطروح ليست أغنية..

مطروح أشباح وظل..”

وسط البيداء حيث الجوع والعطش، ومن تحت أوراق العوسج، حيث الشوك السام، تبدو حبات الثمر الحمراء الصغيرة بطراوتها وبمذاقها الحلو. وفي الليل تهب الريح قادمة من البحر. وما بين الخط الأصفر لرمال الصحراء، والامتداد الأزرق للبحر، تظهر الروابي المغطاة بالرمال البيضاء.  

كان عمر المختار(8) يكمن هناك، مع رفاقه وخيوله، متربصاً للغزاة الأجانب. وكان جمال الدربالي يضع علامة السكون على حرب التاء.. هكذا في الفضاء الواسع ما بين شواطئ مرسى مطرح وشواطئ الإسكندرية. يخطو بحذائه الأسود قرب الموج.. يخطو تحت خيوط الضوء القادمة من مصابيح الشارع. قال ووجهه، كله، يبتسم ابتسامة وداع:

“يا أيها الشيخ الذي..

ملأ الصحارى عزتين، وعزة

ودماً يفور..

وأغنياتْ

علِّم خيولك

أن بعض الشعر ماتْ”

في مثل هذا الوقت من الشهر، شهر مايو، من عام 1994، انتهى الشاعر من كتابة قصيدة “الطريق”. وكانت أحوال العرب على غير ما يرام. كان الغزاة الأجانب ما زالوا هنا. نعم.. كان يراهم هنا. ولم يكن هناك ما ينبئ بنهاية لدرب الآلام.

وكان للقصيدة مقدمة. كانت مقدمة تشير إلى أن الشاعر انقطع عن الكتابة لبعض الوقت، وأنه الآن يعود..

“عودة لناس لم يتأمركوا.. ولم يتفرنسوا.. ولم يتبرطنوا.. ولم يتصهينوا..”. لقد كانت أحوال العرب سيئة حقاً من العراق وبلاد الخليج، إلى فلسطين وبلاد الشمال الأفريقي.

ويقول في مقدمة القصيدة كذلك:

“عودة لناس لم يعرفوا سوى وجهين..

الله..

والوطن..

عودة بلا ضجيج لعمر المختار”.

إن قصيدة “الطريق” واحدة من الأعمال الملحمية ذات العمق الإنساني الخاص بمأساة العرب. بمأساة الوجود العربي.. إنها مرارة الهزائم المتوالية. هزائم لا تنتهي. لم يكن أمام الشاعر غير توجيه كلماته الموحية إلى عمر المختار، قائلاً:

“يا أيها الشيخ الصديق..

قدم على قدم

.. طريق”.

ظل تراب الوطن، كل الوطن العربي، في خيال الشاعر. ويرى الخطر المحدق بأهله، كل أهله، أمام عينيه. ولم يكن المستقبل يبشر بأي أمل. وفي قصيدة “لا أعرف” يقول:

“أي البحار إليك أركب يا وطن؟

أي المحن؟

أي انكسار في العروق

وفي التراب

وفي الزمن؟”

================

    هوامش:

  1. ولد جمال راغب محمد يونس الدربالي، في مرسى مطروح، عام 1955، وتوفي فيها في 2012.
  2. 2-     ولد أمل دنقل في محافظة قنا عام 1940، وتوفي في القاهر عام 1983.
  3. 3-     بيتر إليتش تشايكوفسكي، موسيقي روسي، ولد عام 1840 وتوفي في 1893.
  4. قصيدة البردة، في مدح النبي محمد (ص) للشاعر محمد البوصيري، المولود في قنا (ويقال في الجزائر) عام 1213، والمتوفي في الإسكندرية عام 1296.
  5. بابلو نيرودا، شاعر من تشيلي، ولد عام 1904، وتوفي عام 1973.
  6. عوض عبد القادر المالكي، مغني وشاعر وموسيقي شعبي. ولد في الإسكندرية عام 1952، وتوفي في القاهرة عام 1992.
  7. 7-     إبراهيم عبد السميع، شاعر من مواليد محافظة الشرقية عام 1932، وتوفي في مرسى مطروح في 2005.
  8. عمر المختار، مجاهد ليبي ضد الاحتلال الفرنسي في أفريقيا وضد الاحتلال الإيطالي في ليبيا. ولد عام 1858، وتوفي عام 1931.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى