تقارير و تحقيقات

بـ”الأقواس التسعة”.. إثيوبيا أسيرة الفراعنة.. وعقاب من يمنع الفيضان

“أنا لم ألوث ماء النهر، لم أمنع  الفيضان في موسمه، لم أقم سدًا للماء الجاري، أعطيت الخبز للجوعى وأعطيت الماء للعطشى” هذه اعترافات المصري القديم في العالم الآخر كما ورد في نص الخروج إلى النهار من كتاب الموتى.

عشق المصري القديم نهر النيل وكان يمثل له مصدر الحياة، وربط أسماء المعبودات بأسمه، وخصص له عدد من الأرباب، وأشهرهم كان الإله “حابي” رب الفيضان ، كما كان يقابل فيضانه بالإحتفال ببشاشه ويلقي عليه السلام.

“مصر جاءت أولًا  ثم جاء التاريخ”،

ونرصد بالوثائق التاريخية دور مصر في إكتشاف منابع النيل وإرسالها لرحلات إستكشافية إلي أفريقيا تنفيذاً لأوامر الملوك، كما نرصد نصوص ملكية تحذر من الإعتداء علي النيل ، تُركت منقوشه على الجدران تثبت تصدي المصري علي من يحاول المساس بالنيل بما يليق بحضارة أنارت العالم حين كان العالم ظلام.

**نصوص التوابيت

أطلق المصريون القدماء علي النيل اسم “إيترو عا” بمعني النيل العظيم، كما خصص له عدد من الأرباب لعبادته كالإله حابي الذي يمثل الفيضان السنوي.

و في النصوص الأدبية التي دونها المصري علي الجدران ، ترنيمة تبرز تقديره للنيل الواهب للحياة والخُلد :

 “فليحيا الإله الكامل، الذي في الأمواه أنه غذاء مصر وطعامها ومؤونتها، وإنه يسمح لكل امرئ أن يحيا الوفرة علي طريقه، والغذاء على أصابعه ، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر”

وتعددت أسماء النيل كوصفه “سيد القرابين” كما ورد في أناشيد النيل وضمن فقرات نصوص التوابيت، كما عرف بـ اسم سيد الفيضان و رب أزلي ورب الأرباب و أقدم الأرباب وسيد الكل الذي يحدث التوازن في الكون.

**انشودة النيل

“المديح لك يا حابي ، الذي يخرج من الأرض، ويأتي ليعيد الحياة لمصر” ترنيمة

عند فيضان النيل كان يعُم الفرح والإحتفالات في المجتمع المصري القديم، ومن مظاهر الإحتفال تأليف الأناشيد التي كانت تُغني في الشوارع، وصلتنا واحدة مكتوبة في لوحتين على الورق البردي، معروفتين بورقتي ساليير وأنسطاسي، وهما موجوداتان في المتحف البريطاني.

وقام بترجمتهما العالمان الأثريان ماسبرو وجبس ، ورتبوها إلى العربية نُظمًا من الزجل:

تأتي وتمضي طبق ما تريد   وكم تطيع ربها العبيد

وكل ثوب من هموم ماضية  تنزعه بشرى التلاقي الزاهية

فأنت للسقام نعم البلسم        ومنك للجميع تصفو الأنعم

تجيب بالفيض رجاء الأمة   وتصطفيها بعميم الرحمة

يحوي ثراك أنفس المعادن   فتكثر الأموال في الخزائن

لكنَّ بالقمح حياة الناس       وليس بالأموال في القرطاس

***

في عيدك الصغار والكبار   تطربها الطبول والمزمار

ويستطاب الأنس والسرور  ويتباهى بالصفا الجمهور

فأنت حقًّا زينة البلاد        ومصدر الخيرات والإسعاد

هكذا كان يطوف ويهلل المصري القديم متيمًا بالنيل وعظمته، وغني له في الشوارع والحواري وفي المعابد ترنيمات عشقية، ولم يكن أبدًا له مجرد مسطح مائي ، بل كان شريان عواطف تجري كمجري النيل الأبدي.

**التقويم النيلي

منذ أكثر من 4200 سنة قبل الميلاد عرف المصري القديم السنة القمرية وقسمها لفصول وشهور وأيام، حيث ظهر النجم “سبدت” المعروف الآن بالشعري اليمانية وهو مرتبط بالفيضان.

 وميعاد الفيضان هو يوم ميلاد العام والذى أطلقوا عليه التقويم التحوتى نسبة إلى المعبود تحوت إله المعرفة وقياس الزمن.

 والتقويم مرسوم في الخريطة الفلكية بمعبد الرمسيوم بالأقصر وخريطة الأبراج زودياك المرسومة في سقف مقبرة “سن-ن-موت” مستشار الملكة حتشبسوت بمعبد الأقصر، وموجود أيضًا في الدائرة الصخرية التي جدت في صحراء بلدة نبطة جنوب السودان، وأيضا النقوش الموجودة فى الأختام العاجية من عهد نقادة الثانية والتى ترجع 3300ق.م.

 وعرف المصري القديم تقسيم السنة إلي 3 فصول وفقًا لخريطة أبراج السماء في معبد دندرة “هاتور” والموجودة في متحف اللوفر، وكل فصل يحتوي على 4 شهور وهم:

 فصل”آخت” ويعنى بالهيروغليفية أفق أو بزوغ الشمس، وفيه تتم تهيئة الأرض للزراعة والبذر، ويشمل 4 شهور هم: شهر”توت” نسبة للإله توت رب العلوم والفنون ومخترع الكتابة، ثم شهر “بابه” حابى إله النيل، وشهر “هاتور” وينشق من “حتحور” البقرة المقدسة، وهى إله الجمال والخصب، وشهر “كيهك”.

 و فصل “برت” وهو فصل الإنبات، ويضم شهر”طوبة”، و”أمشير”، و“برمهات”، و “برمودة”.

 وفصل “شمو” وهو فصل الحصاد والجفاف، ويشمل “بشنس”، و”بؤونة” و”أبيب”، و “مسرى”، وهكذا تصبح السنة المصرية مكونة من 12 شهرا، وكل شهر مقسم إلى 3 مجموعات عشرية بمجموع 30 يوما.

**إستكشاف المنابع

“أرسلني سيدي صاحب الجلالة مر-إن-رع، في صحبة والدي، الصديق الأوحد، والكاهن المرتل إيري إلى بلاد يام لاستكشاف دروبها، أنجزت هذه المهمة في غضون سبعة أشهر، وجلبت منها شتى أشكال الهدايا الجميلة منها والنادرة ونلت من أجل ذلك المديح كل المديح”

هذا مقتطف من نص كامل تم تسجيلة في مقبرة “حرخوف” في أسوان عن وقائع رحلة إستكشافية قام بها إلى أفريقيا.

وحرخوف أمير جنوب مصر وهو مستكشف ورحالة من الأسرة السادسة، قام بأربعة حملات إستكشافية بناءًا على أومر الملكين “مر أن رع” و “بيبي الثاني” في عام 2200 قبل الميلاد.

و تشير الوثائق التاريخية إلى حرص المصريين على التوغل في النوبة والسودان، و حدوث اتصال ما بين المصريين القدماء ومناطق تقع في جنوب مصر، بلاد “كوش” و”يام” و”بونت”، الأمر الذي يرجح دراية المصريين بإقليم بحر الغزال، أحد روافد النيل في جنوب السودان.

**الأقواس التسعة

“إلهي أنت رب السماء .. كما أنت رب الأرض، أنت يا من جعلت كمت “مصر” عطيتك لأهل الأرض، وحفظت أهلها من كل شر، ها هو الشر قد بات ينتشر في أرضي ويمزق شعبي، إلهي العظيم ، يامن جعلت كمت شُعاع النور للعالم، ها هو الظلام بات يحجبها عن كل العالم، إلهي لا تترك شعبي وأرضي، إنقذها يا إلهي ، احميها يا سيد الوجود، لتبقي دائمًا كمت أرض الحضارة والنور” من مخطوطات رمسيس الثاني الموجودة في المتحف المصري.

والاقواس التسعة هو الاسم الذي أطلقه المصريون القدماء على أعداء مصر الذين حاولوا غزوها وسرقة حضارتها.

“تاسيتو” وهو أسم المنطقة التي عاش فيها الأعداء، والترجمة الحرفية لـ “تاسيتو” هي أرض التسع وليس المقصود منه العدد الفعلي للأعداء انما هو كناية عن كثرتهم، والأسم مرتبط تحديدًا بالجزء الجنوبي من مصر حيث عاش الكوشيون و النوبيون المنتمون للقبائل الليبية ذات الأصل الاسيوي، وتُعرف تاسيتو الآن بالسودان وأثيوبيا واللتان كانتا جزءًا من أرض مصر القديمة.

وحين إستوطنها الكوشيون والنوبيون أطلق عليها المصريون أسم “نبدي تا” بمعنى أرض مضفري الشعر، وكذلك أطلقوا عليهم أسم “كاسو” وتعني القزم لإختلاف طولهم عن المصريين .

كانوا مجرد ضيوف على أهل مصر عاشوا مكرمين حتى ساقهم جشعهم وطمعهم إلى عداوة مصر، طمعوا في الحكم وسرقة الهوية والحضارة ونسبها لأنفسهم رغم كونهم شعوب جديدة ظهرت بعد الطوفان.

ودليل إنتمائهم للأقواس التسعة ظهورهم لأكثر من مرة على جدران المعابد ومقتنيات الملوك على هيئة أسري أسفل قدمي الملك دليل على الإنتصار والسيطرة عليهم، ويظهرون بملامحهم المميزة عن ملامح المصريين .

**النيل المقدس

“من يلوث ماء النيل سوف يصيبه غضب الآلهة”  نص مصري قديم يوجب علي المصريين الحفاظ علي مياه النيل ونظافتها و يتعرض للعقوبة من يخالف التعاليم لإنتهاكه غضب الآلهة في يوم الحساب.

و كان يعامل المصري القديم مياه النيل كمياه مقدسة يغتسل بها لأداء الطقوس الدينية كما كان يُغسل بها الموتي، فكانت بالنسبة له بمثابة تطهير بدني وروحي يشمل طهارة النفس والجسد من كل شائبة.

كما كان يعتقد المصري أنه في إعترفاته في العالم الآخر يوم الحساب سيحاسب على تلويث الماء أو إقامة السدود التي تعيق جريانه، وذلك بحسب النص المكتوب على جدران مقبرة “حرخوف” في أسوان يعترف أمام الإله: “أنا لم ألوث ماء النهر…لم أمنع الفيضان في موسمه…لم أقم سدا للماء الجاري…أعطيت الخبز للجوعى وأعطيت الماء للعطشى”.

**عروسة النيل

أسطورة عروسة النيل التي تناقلتها الأجيال كموروث شفهي، لا يوجد نص مصري قديم واحد يؤكدها،ولا يوجد في معتقدهم الديني تقديم قرابين بشرية إلي المعبود، ولم تذكر اللوحات أو البرديات التي تصف أحوال النيل والفيضان والأزمات والمجاعات أنهم قدموا فيه فتاة عذراء كقربان للنيل، ومع ذلك أن دلت الأسطورة على شئ فهو حب وتقديس المصريين للنيل وصل بهم لأختيار أجمل الفتيات لتقديمها له.

ويمكن تلخيص أراء علماء التاريخ عن قربان النيل فالنقاط الأتية:

  • هناك 3 لوحات وصفت مراسم الإحتفال بفيضان النيل الديني والشعبي تعود إلى عصر الملوك رمسيس الثاني مرنبتاح ورمسيس الثالث، وأشارت اللوحات إلى حضور الملك الإحتفال و يذبح عجل أبيض و أوز وبط ودجاج كقربان وتُلقى في النيل مع رسالة أناشيد تمدح النيل مكتوبة على ورق بردي.
  • بردية هاريس وتعود إلى عصر رمسيس الثالث وتضم قائمة القربان من حيوانات وفواكه ونباتات وتماثيل لمعبود النيل حابي والتي كانت تُلقى في النيل.
  • بحسب دراسة “المجاعة في مصر القديمة” التي قام بها العالم الفرنسي جاك فاندييه وجمع عددًا كبيرًا من النصوص التي تحدثت عن المجاعة من معبدي إدفو ودندرة، ذكرت فيها القربان والطقوس ولم يأت ذكر لـ عروسة للنيل بشرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى