مقالات

دكتور حمدي سيد يكتب: في ذكرى حادث نيوزيلندا الأليم

تحل اليوم ذكرى هجومي كرايست تشيرش، اللذين وقعا في يوم الجمعة 15 مارس 2019، حيث أُطلقت النيران داخل مسجدي النور ومركز لينود الإسلامي في مدينة كرايست تشيرش في نيوزيلندا ونتج عنهُما العديد من الإصابات والوفيات، حيث بدأ الحادث بإطلاق النار أثناء تجمع المصلين لأداء صلاة الجمعة، و قام المتهم الرئيسي في الهجوم ويُدعى”برينتون تارانت” وهو أسترالي الجنسية؛ بقُتل 51 شخصاً وأصيب 50 آخرون، في هذا الحادث الذي يعد الأكثر دموية في تاريخ نيوزيلندا الحديث.

وقد وصفت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا آردرن وعدد من الحكومات في العالم الحادث بأنهُ هجوم إرهابي، و مثَّل تعامل نيوزيلندا مع حادثة كرايست تشيرش نقطة تحول كبيرة في تاريخ تعامل الغرب مع الجرائم الإرهابية ضد المسلمين، فعلى الرغم من عدم تواني المجتمع الغربي المتشبث بثقافة الحرية والقيم الليبرالية عن وصم جرائم التنظيمات التي تحسب نفسها فكريًّا على الإسلام بالإرهابية، إلا أنه في المقابل كثيرًا نفس السياسات على العمليات الإرهابية المتبعة ضد مسلمين، وهو ما اختلف في تعامل نيوزيلندا مع هذه العملية ، حيث قامت باتخاذ العديد من الإجراءات التضامنية مع الضحايا والاستباقية أيضًا بما يمنع تكرار مثل هذه العمليات مستقبلًا.

كيف أدارت جاسيندا أرديرن الأزمة؟

كان موقف الحكومة النيوزلندية برئاسة “جاسيندا أرديرن” من العملية الإرهابية في مسجدي “النور” و”لينوود” في مدينة “كرايست تشيرش” بالغ الوضوح، حيث وصفته بالعمل الإرهابي كما أسلفنا؛ في الوقت الذي كانت تتعاطى فيه وسائل الإعلام الغربية مع الحادث بمصطلحات “المسلح” و”المهاجم”، كما اتخذت الحكومة النيوزلندية عدد من الإجراءات والسياسات لإدارة الأزمة على النحو التالي:
1- شكلت رئيسة الوزراء “لجنة ملكية” للتحقيق في ملابسات الحادث، وسعت منذ اللحظة الأولى لكشف الحقيقية، ويأتي قرار تشكيل هذه اللجنة كرد ملائم على هذه الجريمة، إذ تُخصَّص اللجان الملكية للقضايا ذات الأهمية العامة، ويكون عمل اللجان الملكية مستقلًا تمامًا.
2- تبنت حكومة “أرديرن” منذ وقوع الحادث استراتيجية إزالة المسافات بين مجتمع المسلمين والنيوزيلنديين ،وفي هذا السياق، تم بث الأذان وصلاة الجمعة على الشاشات التلفزيونية، و قادت “أرديرن” نحو خمسة آلاف شخص للتضامن مع الأقلية المسلمة، ودعت للوقوف دقيقتين حدادًا على أرواح الضحايا بالقرب من مسجد النور (موقع الحادثة). ووجهت حديثًا للجالية المسلمة قائلة: “نيوزيلندا تشاطركم الأحزان”، وعملت على توظيف اللغة العربية والتراث الإسلامي للتعبير عن تضامنها مع الضحايا وأهاليهم، كاستعانتها بأحد الأحاديث النبوية التي تحض على التراحم والتعاطف بين الناس.
3- قامت “أرديرن” بارتداء الحجاب لبث الطمأنينة في نفوس الأسر المسلمة، وتبعتها في ذلك الشرطيات والمذيعات في القنوات الفضائية النيوزيلندية، وحرصت في خطابها تجاه الضحايا على استخدام لغة المجموع “نحن” لتعزيز وحدة المجتمع وتضامنه، وفيما يتعلق بمنفذ الهجوم، دعت “أرديرن” الإعلام إلى تجاهله وعدم إبراز اسمه، وتعزيز وجود الضحايا وذكر قصصهم.
4- من جانبها تعهدت الحكومة بتحمل تكاليف المآتم للضحايا بما في ذلك تحمل الأعباء المالية لسفر عائلات الضحايا إلى نيوزيلندا للمشاركة في تأبين ذويهم، أو تحمل تكاليف نقل الجثامين إلى أوطانهم الأصلية في حال رغب أهالي الضحايا في ذلك.
5- أعلنت “أرديرن” أنها ستغير قوانين حيازة الأسلحة حرصًا على أمان وسلامة المجتمع. وبالفعل اتخذت قرارات فورية لحظر بيع الأسلحة الهجومية ونصف الآلية ذات الطراز العسكري التي استخدمها الإرهابي في الهجوم على المسجدين.
6- نددت “أرديرن” كذلك بالأيديولوجيا القومية وخرافات تفوق العنصر الأبيض، ورفضت دون تردد محاولة ربط أحد المشرّعين بمجلس النواب الأسترالي بين هجرة المسلمين والعنف، معتبرة أن محاولة الربط بين الجانبين “عار” و”مخزي”. ودعت “أرديرن” إلى إطلاق حملة عالمية لاجتثاث أفكار اليمين المتطرف، ورفضت في الوقت نفسه الحجج التي تزعم نمو العنصرية بسبب تزايد أعداد المهاجرين، ودعت إلى اعتبار العنصرية جريمة عالمية. يُضاف إلى ذلك تأكيدها على إيمان المجتمع النيوزيلندي بالتعدد والتنوع.

تضامن الشعب النيوزيلندي تضامنًا كبيرًا مع الأقلية المسلمة:

وهو ما بدا جليا في قيام العديد من الأفراد بالتخلي الطوعي عن الأسلحة، وجمع التبرعات لصالح الضحايا وأسرهم، ومقاومة الإسلاموفوبيا بكافة مظاهره، مثل: بث الأذان، واستخدام اللغة العربية، وارتداء الحجاب في وسائل الإعلام والأماكن العامة، وهو ما يمكن إيضاحه بشكل تفصيلي فيما يلي:
1- مقاومة الإسلاموفوبيا و إظهار التضامن مع الجالية المسلمة، حيث تنوعت أنماط مقاومة الإسلاموفوبيا التي تبناها النيوزيلنديين للتعبير عن تضامنهم مع ما تعرضت له الأقلية المسلمة بنيوزيلندا، واتخذت هذه المظاهر أشكالًا مختلفة مثل احتشاد الآلاف من النيوزيلنديين حول المساجد وداخلها للتعرف على الثقافة الإسلامية والتضامن مع المسلمين هناك.
2- رفض معظم الفاعلين في العمل السياسي والحزبي باختلاف توجهاتهم العملية الإرهابية، وقامت المعارضة النيوزيلندية بإرسال وفد إلى مدينة كرايست تشيرش لتقديم العزاء لأهالي الضحايا، وإعلان التضامن معهم.
3- التخلي الطوعي عن الأسلحة؛ وذلك رغم عدم إقرار قانون تنظيم حيازة الأسلحة بعد، إلا أن العديد من النيوزيلنديين بادروا بالتخلي الطوعي عن أسلحتهم،وبرز هذا النمط المتسامح في نيوزيلندا على مستوى المجتمع، والحكومة، وأحزاب المعارضة على حدٍّ سواء. وهو ما يعكس صورةٍ مختلفة تمامًا عن الخطابات المناهضة للمسلمين السائدة في أوروبا وأمريكا.
4- دشَّن النيوزيلنديون العديد من المبادرات لجمع التبرعات لصالح الناجين، وأهالي الضحايا.
5- بث الأذان في وسائل الإعلام الرسمية، وكتبت صحيفة The Press النيوزيلندية على صفحتها الأولى كلمة “السلام” باللغة العربية، وتحتها أسماء ضحايا الحادث الإرهابي، كمحاولة لطمأنة المسلمين بنيوزيلندا، وتواصلت هذه المظاهر المبتكرة بإقدام عددٍ كبير من النساء بالاقتداء برئيسة الوزراء “أرديرن” لارتداء الحجاب في وسائل الإعلام والشوارع.

حصار خطاب الكراهية

أبرزت حادثة كرايست تشيرش النقيض المتسامح لخطاب الكراهية وحاصرته، والذي تزامن مع صعود تيارات اليمين المتطرف في أوروبا ووأمريكا، حيث مثَّل تعاطي “أرديرن” مع المذبحة عامل ضغط على الحكومات الغربية المتطرفة، فعلى سبيل المثال أعادت العملية الإرهابية الضغوط السياسية والشعبية على إدارة الرئيس الأمريكي السابق”ترامب” فيما يتصل بتعاطي إدارته مع الأقليات، وملف الهجرة. وحمل ذات الحادث مزيدًا من الضغوط على إدارة “ترامب” لوضع حدٍّ لانتشار الأسلحة تخوفًا من تكرار حوادث مشابهة هناك، خاصة مع تنامي أنشطة الجماعات المتطرفة.

ويعبر موقف رئيسة وزراء نيوزيلندا إيمانها الحقيقي بمبدأ التعددية داخل المجتمع النيوزيلندي، ورفض التطرف بكافة صوره وأشكاله، حيث أبرزت حادثة كرايست تشيرش خطابًا متسامحًا يتعارض تملمًا مع خطاب التمييز والعنصرية السائد في أوروبا وأمريكا وشكل تعامل “أرديرن” مع تلك الحادثة عامل ضغط على تلك الحكومات الغربية المتطرفة، ونجحت كذلك في إدارة الأزمة منذ يومها الأول، حيث أبدت تعاطفاً مع الجالية المسلمة؛ وارتدت الحجاب تضامناً معهم، وتحدثت إليهم بصوت مفعم بالحب والصدق، وخرجت إلى العالم تندد وتستنكر هذه الجريمة المروعة، وأكدت في كل خطاباتها على قيم السلام والاحترام بين الأديان وحرية المعتقدات، كما أظهر الشعب النيوزيلندي تعاطفاً كبيراً تجاه المسلمين، وخرج الجميع إلى الساحات يعبرون عن تضامنهم، بينما كان الأذان مرتفعاً ومنقولاً في وسائل إعلام نيوزيلندية، كما تفاعلت الصحف وشبكات التواصل الاجتماعي مع كل ما يحدث، ونجحت نيوزيلندا في تخفيف تداعيات الصدمة، وقدمت نموذجاً يُحتذى به في إدارة الأزمات يُمكن الإقتداء به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى