مقالات

عماد نصير يكتب: أهرامات طنطا.. الدراما بين النمطية والانفصال عن الواقع

كائن أسطوري، أو قل إنسان مجنح، أو حتى مخلوق من خارج المجرة، وربما نرى قريباً أن البعض أصبح يسهب في وصفه وإسقاط السمات النفسية والاجماعية عليه ليصبح في مخيلتهم .. أفاتار.

الصعيدي هو الشخصية المصرية التي تعصى على فهم كُتاب السيناريو، فيبالغون في حبس أنفاس المشاهد وهو يُطالع الدراما التي تتناول طبيعته وطبيعة الكوكب الذي يعيش فيه، حتى قارب المشاهد أن “تنقطع أنفاسه” ويرتاح من سطحية الأعمال الدرامية التي تعجز حتى أن تُلم بأبجديات المجتمع في صعيد مصر.

الأمر لا يتوقف فقط عند حدود اللهجة التي تستوجب فقط وجود “مصحح لهجات” ضمن فريق العمل، شريطة أن يكون أصلاً صعيديا يعيش في الصعيد، وليس صعيدي من أهل “البندر”، بل يتخطاه إلى اللبس ولفة العمامة ومسكة العصا، ولهجة كل منطقة عن الأخرى داخل المحافظة الواحدة، وعادات وتقاليد وقيم وثقافة كل منها أيضاً عن الأخرى، فلكل منطقة في الصعيد لهجة ومفردات تميزهم عن غيرهم، أما أن يحصر الأمر في عباءة على الكتف “صيف شتا”، ولفة عمامة تختلف طريقتها من منطقة لأخرى داخل نفس المحافظة كما أسلفنا، وعصا يمسك بها الشباب في يد وفي الأخرى هاتف محمول، يطالع من خلاله “السوشيال ميديا!!”، و “مجاميع” من الناس تسبح بحمد رجل واحد أو عائلة واحدة في القرية ذاتها، وكأنه نواة تدور في فلكها القرية بأكملها، مع إضافة التوابل الأصلية على كل عمل في دراما الوجه القبلي مثل “الثأر” أو صراع النفوذ على موروث العائلة السادة مع عائلات العبيد، وإضافة بعض المصطلحات الثابتة “هني وهناكا وهناكيتي ودلواكيت وواعر” مع بعض الأسماء مثل “هريدي وجعيدي ووهدان وخلف”، وما إن يتم ضرب الكل في “خلاط” يكون المكون الرئيسي عمل درامي “صعيدي”.

لا يبقى على إتمام العمل سوى بعض الأسماء المعروفة في عالم الدراما تنضم للكاست وهو ما يعرف بــ “نجم جماهير” أياً كانت إجادته للمفردات واللهجة الصعيدية عموماً، وبغض النظر أيضاً عن مناسبته للدور من عدمه، وهل تجري اللهجة على لسانه سهلة سلسة كما ينطقها أهلها، أم هناك “تقعر ومبالغة كوميدية” كفيلة أن تجعل المشاهد يضحك على عمل درامي مليء بالثأر والعصابات وتجار الآثار، وتحوله إلى عمل كوميدي ومسرح اسكتشات، وهنا تبرز جملة “هانعمل المسلسل ويجيب رزقه” والمعلنين جاهزين ومنتظرين موسم رمضان الذي بات بمثابة “مفرمة” تبتلع أي عمل درامي.

هل من المعقول أن يُكتب سيناريو لمشاهد ودراما انجليزية ونجد البطل يقول أمام الكاميرا عادي “بونجور”، الإجابة لا، هل من المعقول أن ننتج دراما عن “صعيدي” بيصطاد سمك التونة في يخته على شواطئ البحر الأحمر في طهطا أو نجع حمادي، الإجابة لا.

إذا يا سادة.. هناك حدود “للشطح” فكما أن لكل مجتمع لغته أو لهجته أو عاداته وسلوكياته وشواهد مجتمعه التي يشتهر بها، فيجب أن نحرص كل الحرص أن لا نزيف واقعه، فنلبسه ما لا يلبس ونتكلم عن لسانه بلهجة غير لهجته، أو نسقط عليه “بجهل” دون عمد أموراً تجعل من العمل الدرامي أضحوكة، ويكون في مجمله تشويه.

الدراما التي تتناول الريف في بحري وقبلي غالباً هي الأكثر مشاهدة وقبولاً في الشارع المصري، ومن خلال ما حققه ذلك منذ عقود طويلة وجب أن يتقن صناع العمل كل “صغيرة وكبيرة” تخص المجتمع موضوع الطرح الدرامي.

وحتى نصل لمثل ما أسلفنا ولا نكرر نفس الأخطاء وجب علينا أن نراعي عدة أمور ونعي ونفهم بعض المعايير، عبيط القرية خرافة، “الغازية” المنحلة أسطورة، الفلاح اللي بيموت لما يسمع اسم العمدة نكتة بايخة، الغفر اللي “طايحين في البلد” حدوتة قبل النوم، “مط الكلام” وكل حرف في لهجة الريف مكسور غلط كبير “وأمر ليه قواعد” الجلابية المخططة “الكاستور” والمنديل المحلاوي “في ذاكرة الكاتب فقط” وليس في الواقع.

إذا عجزت عزيزي الكاتب أن تكتب دراما الريف كما ينبغي وكأنك واحد من القرية فأهلاً وسهلاً بك، وإلا فالتزم بدراما تحاكي الشارع الذي تسكن فيه وما تراه بعينك من ملابس ولهجات وسلوك مجتمعي في مدينتك أو حتى في الحي الذي تسكن فيه فقط، فالمسألة بالكيف وليس الكم، وسعيك وراء الدراما التي تحقق مشاهدة أعلى فقط دون إلمام تام بكل ما يلزمها، مغامرة تكلفتها مرتفعة، ربما تطيح بالكاتب والممثل “وتقفل بيت المنتج”.

هناك من الأعمال الدرامية التي لاقت نجاحا باهرا وعلقت في أذهان الجمهور وما زالت، “ذئاب الجبل- الوتد- العصيان- الضوء الشارد” وغيرها الكثير، ولعل أهم أسباب نجاحها أن الفنان “لبس الدور” والدور ناسب شخصيته والسرد الدرامي جاء سلساً دون “مبالغة” ولا تقعر ولا “أفورة” ولا تقديم الدور متكئاً على نجاح دور آخر في عمل آخر.

عزيزي الكاتب والممثل والمخرج، حتى لا ندخل في سجالات حول ما طرحناه وقبل أن ترى أن ما قدمته عمل ناجح وهو في عين الجمهور “…..” ، وقبل التجهيز لأي عمل قادم “اخطف رجلك” بزيارة للصعيد واعمل “معايشة”، او تعالى طنطا وشوف الريف، فالواقع بيعد كل البعد عن ما تطرحون، والريف المصري، والصعيد على وجه الخصوص يختلفان بشكل كبير عن ما تطرحون، فصعيد مدينة الإنتاج الإعلامي غير صعيد أبو تشت والبلينا وقوص، والفلاحين الذين يعيشون في الدلتا غير الفلاحين الذين يعيشون في رؤوسكم’ والا فقريبا سنشاهد معكم وبكم دراما تظهر السائحون وهم يزورون أهرامات طنطا’ أو يتزلجون على الثلج في نجع القصب شمال مقاطعة أبوتشت.

            نلقاكم في قعدة عرب أخرى..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى