مقالات

عماد نصير يكتب: حرب أكتوبر.. بناء القدوة واستشراف المستقبل

على الرغم من مرور عقود على انتهاء الملحمة العسكرية بين مصر وسوريا من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، إلا أن تلك الحرب لم تبح بكامل أسرارها بعد، وعاما تلو الآخر نقرأ أو نستمع إلى مرويات على لسان العديد من أبطالها، الذين عاصروا الأحداث وما قبلها وما بعدها، وكانوا شهوداً على عبقرية العسكرية المصرية، التي استطاعت أن ترد الصاع صاعين، وأن تضع لمصر قدماً في الضفة الشرقية مرة أخرى، بعد أن كانت سيناء قد خرجت عن السيطرة المصرية لسنوات، لتبدأ مصر مرحلة أخرى أشبه بما يكون بالحرب الباردة حيث المفاوضات لاسترجاع كامل الحق.

فن الحرب.. مقولة نقرأها أو نستمع إلى دلالاتها من العسكريين والمحللين والخبراء، وربما لا ندرك تماماً ما تعنيه الجملة من بلاغة ومقصد بحكم عدم الاختصاص، إلا أننا على موعد من كل عام في أكتوبر أو رمضان، لنطالع ونشاهد لقاءات حصرية مع أبطال مشاركين في الحرب، وهم في أغلبهم من طينة هذا البلد، من ملح الأرض وعوام الشعب، لنجد أن أحد أهم وأبرز فنون الحرب التي اتسم بها المصريون وقتئذ هو فن “الثأر” وتخطي حدود الواقع والممكن.

لا يخفى علينا ما تعرضت له الجيوش العربية من “نكسة”، أدت إلى خسارة مساحات شاسعة من أراضي وطننا العربي في مصر وسوريا والأردن، الأمر الذي باتت معه الأمور أكثر تعقيداً، فكان لابد من استرجاع الأرض واسترداد الكرامة، إلا أن ميزان قوى التسليح كان يميل أكثر تجاه إسرائيل، بحكم الدعم اللامحدود الذي توفره أميركا وغيرها، فكان لابد من وضع خطط عسكرية محكمة تعتمد على المفاجأة والسرعة الخاطفة، ووضع قدم في الضفة الشرقة للقناة، وهو بلا شك ما لم يكن ليتم لولا اعتماد القادة لأحدث النظم والتكتيكات العسكرية، المعتمدة في الأصل على ما يسمى بفنون الحرب، أو ما ترجمه المقاتلون أنفسهم إلى “الثأر”.

الفرد المقاتل.. لم تكن منظومة النصر لتكتمل دون وجود فرد مقاتل يمتلك خبرة حربية وروح معنوية ورغبة في النصر واسترداد الحق، فرد منخرط في صفوف الجيش والتدريبات منذ سنوات، تخللها ما عرف بحرب الاستنزاف، وبالتالي يمتلك من الخبرة والدراية بفنون الحرب ما يؤهله لانتزاع حقه واسترداد شرفه وأرضه التي كانت تئن تحت وطأة الاحتلال، والثأر لشهداء الاستنزاف ومن قبلها حيث نكسة 67.

لقد كان جليا في ذلك الوقت أن الروح المعنوية للجنود بعد توفيق الله، والخطة المحكمة واختيار التوقيت، هي أبرز العناصر التي حسمت المعركة في شوطها الأول وشقها الحربي، ليبدأ بعد ذلك فصل آخر من فنون الحرب وهو المقاوضات التي امتدت فصولها لسنوات، حتى استرجاع طابا فعليا للخارطة المصرية، وهو الأمر الذي يلزمه كثير من الحنكة والدراية بماهية الأمور، بل وحتى دلالات المفردات اللغوية ذاتها، ما يجعل من التفاوض فناً له انعكاساته ونتائجه التي لا تقل ضراوة عن الحرب ذاتها، بل قل إن شئت هو الفصل الثاني من الحرب ذاتها.

الاهتمام بالشباب.. تعج وسائل الإعلام يومياً بالحديث عن الشباب، كونهم المحرك الفاعل لكل دولة حرباً وسلاماً وتنمية وتخطيطاً، وهو الأمر الجيد والمحفز، إلا أن الجرعة باتت غير كافية، لا سيما وسط هذا الكم الهائل من الغثاء والإسفاف والتردي الفني المطروح عليهم والذي بدوره يغيب عمداً دور القدوة.

بات لزاماً على أجهزة الدولة المختصة أن تضخ جرعات توعوية وتثقيفية وتنويرية أكبر وأكثر عمقًا للشباب، وهناك من النماذج المشرفة الكثير والكثير، ممن سطروا بدمائهم وتضجياتهم قصصاً تستحق أن تكون في أعمال درامية، تساق إلى الشباب وإلى الأجيال المعاصرة، حتى نغرس فيهم مفاهيم الانتماء للوطن والتضحية والفداء ونكران الذات مقابل المصلحة العامة للوطن ككل، وهذا هو عين بناء القدوة.

الجبهات التي تقف عليها الأوطان كثيرة ومتعددة، وكلها تتكامل وتتوزاى في رسم المكون العام لكل بلد، فهنا جبهة العلم وهناك جبهة الثقافة والفكر وهذه جبهة الاستعداد والتدريب العسكري وتلك جبهة التخطيط ورسم طرق المستقبل الواعد، ولولا التكامل في هذه الجبهات وغيرها، لم تكن الأوطان لتبنى، وبما أن الشباب هم المحرك والداعم الرئيسي لكل هذه الجبهات، فعلينا أن نستشرف آفاق المستقبل من خلال خلق وعي أجيال، بتبنى مفهوم الانتماء للوطن، وإحياء الماضي جنباً إلى جنب مع استشراف آفاق المستقبل، لخلق قدوة مباشرة وغير مباشرة، من شأنها استقطاب الشباب أنفسهم بتوجههم وتفكيرهم ومستقبلهم، وجعل ذلك كله يدور في فلك الوطن، وهو الأمر الذي يعد مكسباً لأي أمة في أي عصر، فبناء القدوة عمل يترتب عليه بناء الأمم.

حفظ الله مصرنا ورحم صنّاع أكتوبر وأبطاله الذين أتاحوا ووفروا لنا القدوة الحسنة، وأعادوا لنا السيادة على كامل أراضينا.

                          نلقاكم في قعدة عرب أخرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى