تقارير و تحقيقات

في بر مصر ٣| “أم محمد علي”.. سبيل المستغيث يطلق استغاثة

إذا فكرت في أخذ جولة في شوارع مصر من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، فإن أكثر ما سيقابلك فيها هو مبرد المياة (الكولدير) الذي ينتهي بعدة صنابير ليشرب منه المارة، وفي أغلب الأحوال ستجد أن هذا الكولدير قد وضع صدقة جارية على روح فقيد، فهي عادة مصرية يهديها أحباب الميت له ليزيدوه قربًا من الجنة، لكن هذه العادة لها تاريخ يمتد عبر الزمن.

فأصل ذلك الكولدير هو (السبيل) الذي بدأ من العصر الأيوبي بمبني رخامي ذو واجهة نحاسية ملحق بمدرسة، ويحتوي على صهريج لتخزين المياة تتوافد عليه الناس للحصول على المياة النظيفة، وقد تطورت الفكرة في العصرين المملوكي والعثماني، فأصبح السبيل مبنى يضم أنشطة تعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم إلى جانب سقيا الماء.

“اليوم” قررت فتح صفحات التاريخ والحديث عن أحد تلك الروافد الخيرية التي أصبحت روافد سياحية، لمعرفة ما تبقى منها وما وصل إليه حالها.

فبينما تطورت فكرة بناء الأسبلة في العصر المملوكي وأخذت شكلًا مقننًا، فقد راجت وازدهرت في العصر العثماني حينما ارتبطت بأسماء الملوك والأمراء، فكل أمير أراد تخليد اسمه وربطه بالأعمال الخيرية أنشأ سبيلًا في أحد شوارع القاهرة، ثم الأميرات اللائي كان لهن السبق في إنشاء الأسبلة كصدقات جارية على أرواح أبنائهن الراحلين..

من بين تلك الأميرات كانت (زبا قادرين) ابنة (عبد الله البيضا)، التي أنشأت سبيل (أم محمد علي) صدقة على روح ابنها (محمد علي الصغير) ابن (محمد علي بك الكبير) الذي توفي عام 1861م.

يقع السبيل في ميدان رمسيس خلف مسجد الفتح، بأول شارع “الجمهورية” الذي استقرت لافتته على أحد أعمدة السبيل وكان يسمى قديمًا “باب الحديد”، وترجح المصادر التاريخية أنه أُنشِأ في هذا المكان ليمثل ترحاب المسافرين (عابري السبيل).

السبيل من تصميم المعماري الإيطالي “تشيرو بنتانيللي” – (1833-1884)، وقام بحساب خزان السبيل المعماري المصري “حسين باشا فهمي” الذي كان واحدًا من تلاميذ البعثة الخامسة لمحمد علي باشا، وقد تم إدراج السبيل في عداد الأثار الإسلامية في التاسع من يناير عام 1952.

وعلى الرغم من بناء السبيل على الطراز العثماني غير أنه اختلط بعناصر من الطراز المملوكي، ويرجع هذا التداخل بين الطرازين إلى أن نشأة الأسبلة كانت في العهد المملوكي فيما كان تطورها وازدهارها في العصر العثماني، فكانت الأسبلة في العصر العثماني تميل بعض الشئ إلى طرازها الأصلي وهو الطراز المملوكي.

وقد صُمِمَ على شكل نصف دائرة امتلأ بالنقوش واللوحات الرخامية والزخارف النحاسية على مساحة 500 متر مربع، كما أن واجهته من الرخام الأبيض الذي نحتت فيه النقوش الكتابية والزخارف النباتية، كما استخدم النحاس في عمارة السبيل بشكل كبير إذ تغطي الزخارف النحاسية واجهة نوافذه السفلية، كذلك احتوى السبيل لوحتين نحاسيتين كبيرتين يحملان تاريخ السبيل وأسباب إنشاؤه وتحليهما الزخارف النباتية، حملت اللوحة في اليسار ثمانية أبيات شعرية نصها:

حليلة محيي قطر مصر محمد علي مليك العصر رب المحامد

ووالدة الشهم الأمير محمـــــد   علي أثيل المجد عن خير والد

بنت لعباد الله في حب بعلهـا     وواحدها اسنى سبيل لقاصد

فمن مائه الصافي كما شاء يرتوي  بعافية في جسمــــه كل وارد

ويثني بإخلاص عليها فإنـــها      بنته لإحياء نفس غاد ووافــــــد

وسادت على أترابها في زمانها     بحسـن ثواب دائم متزايد

وفي دولة إسماعيل نالت من الوري    ثناء بتوفيق لخير المقاصد

وقد قال مجدي في بناها مؤرخًا     سبيل زبا عذب سني المـوارد

وقد برع المصمم في كتابة السطر الأخير”سبيل زبا عذب سني المـــــــــــــوارد” أن حاصل جمعه يمثل تاريخ الإنشاء 1286هـ، فيما حملت اللوحة في اليمين ذات الثمانية اسطر بالنص العثماني الذي لا يوجد فيه حساب الجمل، ما اضطر المزخرف إلى كتابة تاريخ البناء بالأرقام.

يتكون السبيل والكتاب الذي يعلوه من واجهتين، أولهما: الرئيسية من الناحية الشمالية الغربية تطل على شارع الجمهورية، وتحتوي على ثلاث دخلات رأسية، أولها فتحة باب ذات مصراع خشبي واحد تزينه زخارف نباتية وهندسية، وعلى جانبي هذا المدخل دامتان دائريتان من الجص المحلى بزخارف نباتية، يعلوها شريط كتابي نصه “يا يحيى خذ الكتاب بقوة أتيناه الحكم صبيا”.

وكان في القدم يحتوي العديد من الآبار ذات الماء النقي الذي كان يتم تنقيته على لوح الشاذرون، فيخرج الماء من صنابير رخامية في واجهة السبيل، كل منها منحوت على شكل رأس أسد يخرج من فمه الماء، ويصب في أكواب نحاسية ويقدم للمارة.

وفي الطابق الثاني نجد شرفة خشبية بها ثلاث نوافذ معقودة بعقود نصف دائرية، تعلوها لوحة تأسيسية ذات كتابات تركية من ثمانية أسطر، تمت ترجمتها إلى “حور العين الجميل بالجنة سيسقي والده والي مصر محمد علي باشا من ماء الكوثر”، كما نقشت والدة محمد علي اسم ابنها على جُدران السبيل عرفانًا منها ببره وإحسانه، آملة أن تنعم معه بدعوات الخير والأجر الجزيل من الله: “اللهم يا ربنا ألهم روح (محمد علي) الرشاد والسداد، واقبل منه كل أعمال الخير التي قام بها وعجل له بموفور الجزاء الأوفى”.

المكان ذو العمارة الفريدة المؤسس بذوق رفيع يعاني الإهمال، إذ يمتلئ جانبه الشرقي بالقاذورات التي تصل به أن يكون مرحاضًا عامًا وسط الطريق. كما تعرض السبيل لسرقة القطع النحاسية التي تغطي واجهة شرفاته السفلية، ما اضطر المسئولين عن حراسته إلى تقييد ما تبقى منها بسلاسل حديدية لتصعب عمليات نهبها، أما عن تاريخ وقائع النهب فقد أقر بعض الموجودين حول المكان – بعد سؤالهم – أنه حدث إبان الثورات المتتالية على البلاد.

كذلك تعرض إلى حريق كبيرعام 2018، أحدث أضرارًا بأجزاء من السقف الخشبي للجناح الأيمن الذي يقع فيه الكتاب الذي يضمه السبيل، ما دعى محافظة القاهرة لإخلاء مبنى السبيل وتسليمه إلى وزارة الأوقاف في نوفمبر 2020 تنفيذا لقرار المجلس الأعلى للأثار رقم (3446) بالإخلاء المؤقت للمبنى. ولا يزال المبنى قابعًا تحت الترميم في انتظار ذلك التحرك الفعلي لإنقاذ واحد من أهم خمسة أسبلة وجدت في تاريخ مصر.   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى