مقالات

محمد مستجاب يكتب عن الغول الأكبر.. إنه العاصمة

في العدد الثاني لجريدة أخبار أسيوط عام 1999، كتب الأديب محمد مستجاب سلسلة تحت عنوان نبش الغراب.

وقفت طويلا أمام العاصمة، أحاول دخولها مسالما هادئا رقيق الحاشية مع أن الحاشية من مستلزمات العواصم دون الأقاليم، وكلما أمسكت بالقلم أحس بنظرات تخلو من الود تنبثق من عيون التاريخ، هذا العلم المنافق المداور المناور الذي لا يخلو من بلاهة، والذي يرقد – مثل الكلب – تحت أقدام العاصمة، كل الأمور، كل الخيوط، كل الأنوار، كل الكتابة كل الأغاني، لا تصل الى ابناء اي اقليم إلا اذا ابتسمت له العاصمة حتى ولو كان ذلك منبثقا من الاقليم ذاته، أن الإله آتون الخاص بالسيد اخناتون كان الها واحدا وصحيحا يقترب خطوات نحو الفكرة المثلى للعبادة، لكن الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الإله أتون انه نما وترعرع خارج العاصمة، ودون أن تعتمده منف أو طيبة، او أية عاصمة أخري، ای دون أن ينحني امتثالا تحت مركزية الإله العتيق أمون، وبالتالي فلم يقدم للعاصمة القرابين المناسبة، وهو أمر يدمر أسس التاريخ «المصري» بالذات.

وبالتالي فان القواعد تقضي بالانتباه الجيد لمعنى العاصمة، مهما تغيرت الأوضاع والمراحل والعصور، ومهما ابتسمت العاصمة في مجاملة رقيقة کی تتصرف الأقاليم في حرية حسب ظروفها وإمكانياتها وقواعد تقاليدها وتشكيل وجدانها، إلا أن ذلك – مع متعة اعلانه – يصبح مثل نقطة العرسان تثير الضجيج والصخب والرقص والطرب، لكنها لا تصنع – للعروسين – أساسا للحياة بالمفهوم الحقيقي للحياة.

شركة الحديد والصلب «لا أعرف أخبارها الآن»، كانت في الستينيات تمتلك مناجم في أسوان على مسافة الف كيلو من القاهرة .

وفي الواحات البحرية (۲۷۰ کیلو» فأقيمت لهذه المناجم أفران في حلوان جنوب العاصمة بمسافة عشرين كيلو. أو أقل، ومع ذلك لم تشبع شركة الحديد والصلب من احتكاكها بالعاصمة فأنشأت لها ادارة وسط القاهرة، لماذا ؟؟ شركة بصل سوهاج التي تجمع البصل من سوهاج ، ادارتها بالقاهرة، مع ان لها ادارة أخرى في الاسكندرية بصفتها ميناء التصدير أيام ان كان هناك تصدير للبصل، وكأن كل سواحل وموانىء البحر الأحمر لا تصلح لذلك فقط لأن هذه الموانيء يمكن الوصول اليها دون القاهرة فأصبحت بعيدة ومرهقة مهما كانت قريبة من سوهاج، كل شركات جمع وتصدير القطن تقبع اداراتها في القاهرة مع ان القاهرة تخلو من المحالج، والمحالج منتشرة في الأقاليم، «لاحظ أن عددا وفيرا من هذه المحالج بدأت تعاني من التعطل والبطالة»، ثم هل تعرف شيئا عن مصانع السكر في كوم امبو وادفو وقوص ونجع حمادي وأبو قرقاص، ثم في الحوامدية – جنوب الجيزة، – إن إدارتها وسط العاصمة بين شارع طلعت حرب وشارع شريف، ولماذا ينصت أصحاب مضارب الأرز الي العاصمة مع انه يزرع في منطقة تطل على البحر المتوسط، وأود من باب المرح أن تتصور بلدا مثل كوم امبو أو ادفو وهى تحتضن في صدرها مصانع السكر وعيونها موجهة إلى القاهرة تنتظر التعليمات المناسبة.

كل هذا يقودنا الى مالا يريد ان يدركه الكثيرون، وهو أن الأمور خارج الأرز والبصل والسكر لا تختلف كثيرا إن ما اثرته من قبل وفهمه بعض الاذكياء جدا على عكس ما أعنى من ان كل ارض مصر اي كل اقاليم بلادها تصلح لانجاب الادباء والمفكرين والكتاب والصحفيين والمبدعين.

في كافة نواحي النشاط الإنساني، ومع ذلك فأي واحد من هؤلاء لن يكون أديبا او مفكرا او ای قيمة متميزة دون المرور بالعاصمة، ای دون أن تعتمده العاصمة، بصفتها موطن ترکیز الحكم والسلطة والمطابع والجرائد والمجلات والدوريات وجوائز الدولة وتوزيع المؤتمرات والتراخيص وتعديل بنود المكافآت والرشاوی والتضحيات والقرابين والترقيات، وبورصات المال والبنوك.

كما أن العاصمة مركز تحريك القانون والدستور وانشاء المتاحف والمعارض وقاعات الأوبرا وتقنين السلوك العام وتحديد الأشخاص الذين ترى فيهم السلطة المركزية في العاصمة من يستحق أن يكون موضع الرضا السامي على كافة المستويات الفنية والإدارية في الأقاليم مع أهمية الاعلان بین وقت وآخر بحرية كل اقليم في اتخاذ ما يراه من قرارات لكنها لن تكون تلك القرارات العظيمة المؤثرة.

كل أمم العالم – القديم – تشكو بشكل أو بآخر من سرطان العواصم، وهناك على سبيل المثال ما يسمى في فرنسا بقضية، ليون، وهي مدينة بعيدا عن باريس بمسافة طويلة في الجنوب الشرقي من فرنسا على الطريق المؤدي لجنيف قريبا من الحدود مع سويسرا وقد افصح ل عن هذه المسألة الصديق ألان روسيون والذى كان نائب رئيس المركز الثقافى الفرنسي والذى ترجم بعض قصصى القصيرة الي الفرنسية.

ذلك ان ادباء مدينة ليون وقريبة منها مدينة جرينوبل لا تتحقق لهما أمنيات السطوع او الحضور الأدبي الا اذا توجهوا الى مدينة باريس «ليحصلوا على اعتماد العاصمة»، في نفس الوقت فان امرا آخر وعلى النقيض يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية أي العالم الجديد الذي اقيمت تكويناته الحضارية ومجالات نشاطه واقتصاده تأسيسا على عدم السماح للعاصمة أن تهيمن على حركة البشر هناك واشنطن الأمريكية هي العاصمة لكنها ليست أهم ولا أكبر المدن ، تفوقها نشاطا اقتصاديا وتأثيرا وفي عدد السكان نيويورك وسان فرانسيسكو وسانت لويس ودترويت، .. ومدن أخرى عديدة، خذ عندك الروائی الأمريكي الشهير وليم فوكنر الذي نال جائزة نوبل عام 1949وظل طوال حياته يحيا في صعيد – أقصد جنوب الولايات المتحدة، ولم يذهب الي العاصمة الأمريكية الامر واحدة في حفل تكريمه على هذه الذي أقامه له الرئيس هارى ترومان، فهل لو كان نجيب محفوظ يقيم في بني سويف أو أسيوط أو الاسكندرية كان سيحصل على مثل هذا التكريم العالمي؟

ومن باب التوضيح يجب أن ندرك أن العاصمة بقدرتها وسطوتها تمنح بعض أشكالها الحياة أو التقدير لمن يبرزون خارجها أى في الأقاليم وقد كتبنا كثيرا لتحرر جوائز الدولة كل أنواعها من طوة المخالب القاهرية، وكتب أصدقاء عديدون مما ترتب عنه أن افلتت الجائزة التشجيعية ثلاث أو أربع مرات خلال خمسة وثلاثين عاما مضت، لكنها مرات استثنائية  تثبت الظاهرة دون أن تحركها من موقعها او تجرح جلدها الخارجي.

مرة أخيرة: استفادت الدنيا الجديدة من سطوة العاصمه وهيمنتها على مقدرات وحركه كل أقاليمها، ولذا فمن المحزن ألا تستطيع مؤسسات الانتاج السينمائي والتليفزيوني ان تنقل نشاطها الى اقليم – مثل الفيوم – مليء بكل ما يسهل الانتاج الفني، وكل الذي استطاعته هذه المؤسسات ان تبني استوديوهات في مدينة 6 أكتوبر ای خارج القاهرة «بفركة کعب»، في حين تجد كاليفورنيا أخر الجنوب الغربي الأمریکی عاصمة للسينما، حيث هوليوود الشهيرة، وديترويت في الشمال عاصمة صناعة السيارات، كما أن المصانع الحربية والمدنية موزعة على الجسد الأمريكي، وكذلك الأدباء والعلماء، حيث لا يتوجه أحدهم الى العاصمة واشنطون الا بعد حصوله على جائزة نوبل، أو نجاحه في انتخابات الرئاسة الأمريكية.

وهذا ما جعلني اقف على حدود عاصمتنا، منتظرا ان يحدث لي ما يحدث للإخوة الأمريكان وبسبب طول الانتظار، کان مسكنى خارجها دون أن أبتعد عن سطوتها، ودون أن أرفع عيني عن أسباب انهيار اصحاب الإله “أتون” في تل العمارنة حيث فتك به وبأصحابه، هذا الغول  الأكبر «العاصمة».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى