مقالات

عماد نصير: يكتب – معذرةً إلى ربكم .. أم ماكرون

 

قد تتسلح بعض الشعوب بالعديد من القيم التي تتغنى بها، في مواجهة محاولات زعزعة أو نزع تثبيت مكانتها العالمية، وتتشح بنوع من الأخلاق يسمو فوق الذائقة العالمية أحياناً، كنوع من أنواع النرجسية والفوقية أو حتى التفرد، الا أن الشاهد أنه لا مواقف ثابتة في مكنون السياسة والساسة، بل هو منطق المنفعة تارةً، وتأصيل الهوية المجتمعية والقومية تارةً أخرى، وصديق اليوم هو عدو الغد ما دامت الرؤى قد تبدلت أو اختلفت المواقف.

فها نحن نرى ونشاهد ونسمع ما بات حديث العالم بأسره، من ذلك الهجوم الشرس وغير المبر على رموز الدين الإسلامي، بل أبرز رموزه قاطبةً وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي بالمناسبة ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة حسب ظني، اللافت هذه المرة وهذه الحملة أمران، أحدهما أن يصدر هذا التصرف غير المسؤول من دولة تسمى بالعظمى، وتشتهر بالفنون والثقافة والفكر والتعددية العرقية والمذهبية، ومن الدول التي لغير العرق الأبيض فيها جذور في فرنسا كغيرهم، بحكم التجنس والتجنيس حتى أن منهم من وصل إلى وظائف عليا في الدولة وباتوا يحملون قيمها وينتمون إليها وينخرطون في قيمها مع الاحتفاظ بهوياتهم الدينية، وطقوس حياتهم التي يحاولون أن تتماشى مع سمات مجتمع معاصر، في إطار السير تحت مظلة الإسلام والإرث الديني الذي نفخر جميعاً به.

الأمر الثاني، أن يدخل على خط النار شخصيات عامة على مستوى رئيس دولة، فها هو ماكرون يصب الزيت على النار، ويقف في خندق واحد مع الغوغاء والدهماء ومعدومي الرؤية الفكرية، ويعادي 1.8 مليار مسلم، بل قل يعادي أصدقائه من زعماء العرب والمسلمون ولتذهب الشعوب إلى حيث شاءت.

وهذا أمر جد خطير، فتأجيج الشعور بالعداء والتهجم والإساءة للرموز الدينية مطلب يوجب فاتورة عالية التكاليف، لا يدفع قيمتها إلا الشعوب المغلوبة على أمرها أو السائرة خلف حكامها مهما تبدلت مواقفهم لصالح أو ضد مصلحة واستقرار تلك الشعوب، وما يفعله ماكرون وشعبه إنما هو التطبيق النموذجي لتلك النظرية.

من المسلمين من يطالبون بتحرك دبلوماسي، ومنهم من يكتفي بأن يحرك أنامله شجباً وإدانة في صفحات التواصل الاجتماعي، ومنهم من لم يحرك ساكناً وكأن الأمر لا يعنيه، ومنهم من يطالبون أو قاموا بالفعل بمقاطعة المنتجات الفرنسية، فالمتحركون يطبقون (معذرةً إلى ربكم …) والساكنون يطبقون (…قالوا سلاماً).

لكل امرئ رؤية ورأي، ولسنا هنا بصدد التوجيه بقدر ما نقوم بالرصد، لكن اللافت أن ذاكرة الشعوب ضعيفة، فلقد قاطعوا الدانمارك مدة وسرعان ما استوحشوا زبدتهم وعصائرهم، وهاهم يقاطعون فرنسا وقريباً كالمعتاد سيستوحشون (البقرة الضاحكة أو بريزيدون)، ولسنا هنا نسفه من أحد أو نعمم على الجميع، بل القياس على الأغلب.

الشاهد هنا أن النخب الموسومة بالفكر والثقافة هي التي تقود الحراك العدائي في هذا الاتجاه منذ بدأ مؤخراً، والشعوب تتحرك وتغذي العداء فيما بينها، والاقتصاد العالمي المتداعي أصلاً يحمل الأوزار ويدفع التكاليف، والساسة وإن كانوا بمنأى سابقاً (باستثناء ماكرون)، إلا أنهم كانوا يحتوون المواقف ولو بشكل نسبي، أما وأن وصل الأمر إلى مستوى الساسة وباتوا يرفعون رايات يرفعها عوام شعوبهم وليس نخبنهم، أصبح الأمر يستوجب تحركاً دولياً، فأين 1.8 مليار مسلم من حفظ معتقدهم وعدم التعرض لدينهم بسوء على غرار معاداة السامية، أين مساواة إحراق الكتب السماوية من محرقة النازيين، أين قوانين التنمر والعنصرية ضد اللون والعرق من الدين والمقدسات والرموز، أين حرية العقائد المنصوص عليها إذ لم تجد لها مكاناً في الغرب كما هو الحال في دولنا الموصومة بالعالم الثالث، أين الرأي العام العالمي والإعلام العالمي الحكومي والخاص من التكاتف والتآخي في تغطية (شارلي ايبدو) من تغطية الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بشق تغطية شاري ايبدو.

ويبقى السؤال الأهم في هذه المعمعة: أي هي حدود حرية الرأي والتعبير؟ فعندما تهكم رئيس البرازيل على زوجة ماكرون غضب وانتفض وكادت تحدث أزمة دبلوماسية، ولم تكن روح ماكرون رياضية على الإطلاق، لم يقل له هذا حقك يا عزيزي بولسونارو، ولك أن تقول رأيك في زوجتي بحرية كاملة، فنحن بلاد تدعم الحريات، وتحارب الرادياكالية الفكرية، لن تجد في مجتمعي من يغضب من النقد مطلقاً فبلادنا بلاد التفتح والحريات والتعددية الثقافية، نحن بلاد متحضرة ولن نرجع بعقولنا إلى عصور البدائية الفكرية، فالنقد هو سيد الحوار العصري، ولا مدنية دون حرية رأي !!.

لماذا أخذ ماكرون الموضوع بشكل شخصي ويرغب من الشعوب الإسلامية أن تتسم بسعة الصدر وتقبل النقد والإساءة والتطاول على خير خلق الله صلى الله عليه وسلم، على الأقل من وجهة نظر المسلمين، في حين أنه غضب لسخرية أحدهم من علامات تقدم سن زوجته وكأنها أمه .. رسولي وديني أحق بالغضب من أمك يا ماكرون.

نلقاكم في قعدة عرب أخرى.

                                                                                                                                                                        عماد نصير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى