مقالات

عماد نصير يكتب: بين التيك توك والتوكتوك.. ماذا بعد؟

المتتبع لملامح ومعالم المشهد المصري في السنوات الأخيرة، والمتفحص للسلوك الشمولي والعقل الجمعي، يجد أن المزاج العام والهوية الغالبة على معظم أفراد هذا الشعب، باتت متغيرة بشكل كبير عن سابق عهدها حتى قبل بضع سنوات قريبة فقط.

من منا لا يحظى بإطلالة يومية قد تصل إلى ساعات، يتابع من خلالها المحتوى الذي تقدمه آلاف بل قل ملايين القنوات على يوتيوب وأخواته ونخص بالذكر منهم تيك توك، وبكل لغات العالم تقريبا، منها ما يقف وراءه أفراد، ومنها ما تدعم محتواه شركات وطواقم عمل وطاقة إبداعية جبارة، منها ما يبني وله هدف تربوي أو تثقيفي أو تعليمي، وبالطبع ستجد على النقيض قنوات لا تنتهج سوى الترفيه والتسلية، إلا أنها أفضل حالا من تلك التي تهدم الفكر والقيم وثوابت سلوكيات الشعوب والمتأصلة فيهم.

بداية موقع يوتيوب كانت في فبراير من العام 2005م، إلا أنه وبمجرد أن انتعش اسمه، بات القبلة الأولى للباحثين عن أي محتوى مرئي عالمياً، وظل متفرداً في ذلك قبل أن تهب علينا رياح “موضة” تيك توك وأخواته، وهو البرنامج الذي بدأ في الصين منتصف العام 2016م، والذي اجتاح العالم من شرقه إلى غربه في مطالع العام 2017م.

اللافت في الأمر هو مدى ازدهار وانتشار مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، لا سيما التي تقدم محتوى فيلمي مرئي، وكأن العالم كان في انتظار تلك المواقع والمنصات بفارغ الصبر، فنجد التهافت والتلهف أصبح أمراً عادياً بل ومستحباً في بعض الأحيان، ما حدا بالقيمة السوقية لتطبيق تيك توك تصل إلى ما يربو على 100 مليار دولار، والقيمة السوقية ليوتيوب تصل إلى ما يقارب 300 مليار دولار، وهي أرقام تتخطى ميزانيات دول وليس دولة واحدة إن جاز القول، ولم لا وهو بمثابة بيت مفتوح يدخله أكثر من 500 مليون زائر، و50 مليون صانع محتوى و ما يزيد عن 5 مليار مشاهدة كل 24 ساعة فقط.

كل ما سبق أمور تجارية واستثمارية، يعود الانتشار فيها لثقافة الشعوب من جهة، وللتسويق والترويج الجيد من جهة أخرى، ولسنا مستفيدين ولا خاسرين مادياً من هذه المعتركات، إلا أننا بصدد طرح العديد من النقاط الأخرى، التي هي أكثر أهمية بالنسبة لنا حتى عن الـ 300 مليار قيمة يوتيوب، وهي أمور تخص أسس وقواعد وبناء مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

الناظر بعين الرصد إلى  تلك المواقع من جهات عدة، من بينها التربوية والدينية والاجتماعية والنفسية، سيجد أنه بات من الضروري والحتمي أن يكون هناك شكل من أشكال “الرقابة” على المحتوى المقدم، بل وصناع المحتوى أنفسهم، ولا وندعم الآراء التي نادت بفرض ضريبة ربح على مدخولاتهم التي تصل إلى عشرات الملايين شهريا لبعض الـ “يتوتيوبرز” المشاهير.

الرقابة التي ننادي بها تقوم بدور الحارس والحامي للقيم التي أشرنا إليها، ولعل الهيئة الوطنية للإعلام هي المرشح الأبرز هنا للقيام بهذا الدور، بالتوازي مع غيرها من الجهات مثل المجلس الوطني لتنظيم الإعلام، أو أياً ما تراه الجهات المنوطة بتكليفه لرقابة صارمة على المحتوى، خاصة ما يمس بشكل مباشر خط القيم التي أسلفناها، والتي لا تقوم الدول بدونها، وأن لا يقتصر الأمر على بلاغ من شخص أو جهة تتحرك بناء عليه “مباحث الإنترنت”.

موجة “تيك توك” خاصة في معظم ما تقدمه لا تقدم فائدة للمجتمع، بقدر ما تهدم وتدمر وتدوس هامات ثوابته، بل إن هذا التطبيق فاق في منافسته سلفه يوتيوب في سطحية محتواه، فمن منا لم يلحظ ما يسوقه إلى بيوتنا سوقاً من ألفاظ ومناظر وتصرفات يندى لها الجبين، حتى أنه بات المتهم الأكبر مؤخراً في تراجع الحياء والعفة والبلادة والارتكان إلى الكسب السريع دون تعب واجتهاد، ولما لا وهو يقدم أرقاماً كبيرة جداً لصناع المحتوى القادرين على جذب الجمهور وبالتالي مزيد من الإعلانات التجارية، بغض النظر عن ما يقدمه المحتوى، فالحساب البنكي هنا دفع للوراء حسابات أخرى، لعل أبرزها قيم وثوابت المجتمع.

هناك دول مثل الصين وروسيا وغيرهما، منعا وحاربا العديد من منصات التواصل الاجتماعي على رأسها فيسبوك، ربما لها حسابات أخرى، إلا أن القاسم المشترك أن الحظر هنا كان بقرار الدولة، لاعتبارات تراها في مصلحة شعوبها أو ربما اقتصادها أو قيمها المجتمعية، ونحن هنا لا ننادي بالمنع فمصر دولة ضاربة في أعماق الحضارة والتاريخ، ولا يصعب عليها التعاطي مع أي طارئ فكري أو ثقافي، بل ننادي بمزيد من الرقابة، حتى لا تصبح بيوتنا “سداح مداح” بفعل تيك توك وأخواته، كما فعل بشوارعنا التوكتوك وأخواته، فلا نحن ساهمنا بالأخير في القضاء على عشوائية المرور، ولا باتت بيوتنا وأبناءنا بمنأى عن نشر المحتوى الهدام، والذي يدخل بيوتنا قسراً وبقوة العصرية والحداثة ومجاراة الواقع، وإن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبدا.

رفقاً بمصر وبشعبها وقيمها وتاريخها، والقارئ الجيد للتاريخ لابد أن يلحظ أن هناك من سلوكيات هدمت حضارات ما كان للمدفع أن يرهبها، وأجيال تربت على نظرة الكسب السريع بصناعة أي محتوى “هايف” وليس محتوى “هادف” تحت زعم “العرض والطلب”، هي أجيال تهدم بنيان بلادها بأيديها دون دراية، أو بتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة الوطنية العامة.

نلقاكم في قعدة عرب أخرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى