غير مصنف

في بر مصر 2| قبة الغوري.. مقبرة لم يدخلها الرفات

قبة الغوري….

هي إحدى أكبر مجموعات الآثار الإسلامية في مصر وأكثرها شهرة وثراء… 

لكن لها- مثل جميع الآثار الإسلامية- قصة طويلة يرويها المؤرخون في سطور عن السلطان “الأشرف أبو النصر قنصوة الغوري بن بيردي الشركسي الحبشي“- الذي أنشأ مجموعة معمارية أبهرت العديد من الآثاريين من الجمال ودقة الصنعةـ حيث تنقسم إلى مبنيين:

أ) المبنى الغربي: ويضم مسجدًا ومدرسة، ب) المبنى الشرقي: الذي يضم سوقًا وخانقاة ومقعدًا وسبيلًا وكتابًا ومنزلًا ووكالة، بالإضافة إلى “القبة” وهو المبنى الذي يمثل موطن رحلتنا “في بر مصر”.

مجموعة السلطان الغوري الآن

أنشأ “السلطان الغوري” المجموعة عام 909- 910هـ (1504-1505م)، لتطل بواجهتها الأمامية على شارع “المعز لدين الله الفاطمي”.. ويمر في منتصف المجموعة الشارع الذي يمثل بداية حي الغورية، ما أعطى المجموعة بعدًا معماريًا فريدًا وكأنها تحتضن المارة في الشارع، وقد اهتمت وزارة الآثار بالمبنى فكتبت على إحدى اللوحات التعريفية: “إن المجموعة تظهر عبقرية المعماري في تكوين تشكيل فراغي شبه منغلق إبراز كتلة المدرسة والمئذنة من جهة، والسبيل والكتاب من الجهة المقابلة، فيكون تشكيلًا فراغيًا احتوائيًا، وزاد نجاح التشكيل بعمل سقيفة خشبية عملاقة لتغطية هذا الفراغ”، حيث يلاحظ الزائر أن السقيفة قد ربطت المبنيين ببعضهما من الأعلى.

وعن تاريخ الشارع المار وسط المجموعة: كان يشغله سوق “البزازين (الحرير)”، وكان يعد وقتها أكبر أسواق العالم في صناعة النسيج والسجاد، وكان يجتذب التجار في شتى أنحاء العالم لما له شهرة وضخامة، وهو مالم يختلف كثيرًا عن النشاط الحالي للشارع الذي يتميز ببيع الأقمشة والمفروشات والنسيج، وكأن المكان يرفض التخلي عن جذور نشاطه التاريخي، كما يصر على الحفاظ على واجهته المعمارية التاريخية.

“اليوم” كانت هناك لتنتقل معكم في جولة تشرح أهم معالمه، وقد رافقنا في تلك الجولة شارحًا تفاصيل المكان وأبعاده التاريخية “أحمد عبد الغفور” أحد المسئولين العاملين هناك ويعرفون تاريخ المكان جيدًا.

بهو المبنى يقف فيه أحد العاملين

في بهو المبنى:- 

عند وقوفك في مواجهة المبنى، عليك ألا تلتفت إلى ضجيج الشارع، فقط استشعر راحة أولئك المتعبون الذين اتكأوا على إحدى الحوائط المحيطة بالمكان يلتقطون أنفاسهم، ثم اترك ذلك الدرج الصغير، ثم امشي عبر الممر الذي ستشم فيه عبق التاريخ، ويقودك إلى البوابة الرئيسية للمبنى.

ممر يقود للبوابة الرئيسية للمبنى

عند البوابة تطالعك اللافتة، وداخلها تجد بعض إعلانات العروض، التي تقام داخل المكان، حيث يقول ” أحمد عبد الغفور “: إن المكان يعد مركزا للإبداع تحت إشراف وزارة الثقافة، فتقام حفلات الإنشاد الديني والتنورة في البهو الرئيسي للمكان، الذي  تصل إليه بعد  عبور ممر صغير من البوابة الرئيسية. 

ويقول ” عبد الغفور “: إن البهو كان به “حوش” جهزه “الغوري ” ليكون مقبرة لأقاربه وأهل بيته، غير أنه توفى قبل أن يتم دفن أحد بالمدفن فبقي البناء دون رفات. 

الحوش الذي كان معدًا لدفن عائلة الغوري

وفي داخل البهو، نجد مجموعة من الكراسي الحديثة ومنصة صغيرة تستخدم عند إحياء ليالي التراث- التي تقيمها وزارة الثقافة بالمكان.

الخانقاة:-

محراب الخانقاة من الداخل

تصعد ذلك الدرج الصغير على يمين مدخل البهو إلى “الخانقاة”- ذلك المكان الفسيح الي كانت مخصصا للجماعات الصوفية، لينقطعون فيه للعبادة وإحياء ليالي الذكر والطقوس الصوفية، وكذلك إقامة الصلاة عدا صلاة الجمعة التي كانوا يؤدونها في المسجد- حسب “عبد الغفور”.

وأردف قائلا: عند مدخل “الخانقاة” تجد خاتم السلطان منقوش على جانبي المدخل، لكنه يظهر -أكثر وضوحًا- على جدار القبة، وقد حولت وزارة الثقافة بهو “الخانقاة” ليكون محلًا لإقامة العروض الثقافية في فصل الشتاء، إذ أن عمارتها تجعلها أكثر دفئًا في الشتاء.

وعلى الرغم أنك تجد منصة العروض ومقاعد الجمهور داخلها، إلا أن العمارة الداخلية لها بقيت على حالها، حيث المنبر المزخرف الدال على اتجاه القبلة والشرفات الزجاجية الملونة، والقبة الخشبية ذات الزجاج الملون أعلى سقفها، مع الحفاظ على السقف الخشبي المزخرف بنقوش وعبارات إسلامية، فجمعت في تصميمها بين المسجد والمدرسة، لتساعد المتصوف على الانقطاع فيها للعبادة.

مدخل القبة:-

مدخل القبة

ومن “الخانقاة” إلى مدخل القبة، حيث تجد الاهتمام بكافة التفاصيل: من الأرضية المزخرفة وحتى وحدات التهوية والإضاءة، ما يترك في نفسك ذات الأثر الذي أراده صاحب البناء- أنك بصدد الدخول إلى مكان ذو أهمية خاصة- إنها القبة … “قبة الغوري” أو محور أهمية المبنى بأكمله.

قبة “الغوري”:- 

القبة من الداخل

تدلف إلى تلك القاعة الفسيحة، مزخرفة الأراضي والجدران، وحتى النوافذ وفتحات التهوية… 

الأرضية من الرخام الملون الذي اصطف بعناية تدل على رفعة الذوق المعماري في ذلك العصر، وعلى الجدران استخدمت ذات الألواح الرخامية، ونقش عليها بطول محيط الغرفة “سورة يس”.

فقد أعد السلطان “الغوري” هذه القبة لتكون مقبرة له، ومن هذا المنطلق -وكما قال “عبد الغفور”: اهتم بوضع منبر وسط أحد الجدران ليميز اتجاه القبلة، وعلى جانبي المنبر دولابين خشبيين، تميزت أبوابهما بنقوش من الداخل والخارج، وكانا مخصصين لوضع المصاحف لكي يقرأ فيها زائروا المقبرة.

وقد تغير كل ذلك بمقتل السلطان “الغوري” في معركة “مرج دابق” شمال حلب عام (١٥١٦م)، فلم يدفن بالقبة التي أعدها لنفسه، لتبقى القبة “مقبرة دون رفات” تنطق بعظمة العمارة الإسلامية وذوقها الرفيع، دون أن تقرأ فيها الفاتحة ولا يدخلها الزوار لقراءة القرآن على الميت- كونه لم يدفن بها.

سقف القبة

والقبة هي أهم ما يميز البناء المعماري، فسقفها المميز ووحدات التهوية فيه أهم ما اهتمت به وزارة الآثار وحافظت عليه أثناء الترميم، وذلك بعد تعرضه لعدة انهيارات، كان أولها ثلاثة انهيارات في عهد السلطان “الغوري” نفسه- ما مثل حينها نذير شؤم على انهيار ملك السلطان وانتهاء عهده وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك- ثم انهارت في القرن التاسع عشر حيث أعيد ترميمها وبناءها من الخشب، قبل إزالتها وإعادة إقامتها بعد تدعيمها بقطاعات من الحديد.

مقعد السلطان “الغوري”:-

مقعد الغوري

ومن القبة إلى المقعد: الذي كان مخصصًا لاستقبال كبار رجال الدولة والشخصيات المهمة -حسب “عبد الغفور”- وتطل شرفاته على البهو الرئيسي للمبنى.

السبيل (الصهريج):- 

اللوح الرخامي للسبيل

لتصل إليه عليك أن تخرج من البوابة الرئيسية، وتنتقل عبر الممر الخارجي إلى مدخل جانبي، تصعد درجه الصغير فتصل إلى السبيل… وكانت تقنية عمله عبر رفع الماء لبناء به حبل إلى وحدة تخزين مياة أعلى السبيل، ليخرج منها الماء على لوحة رخامية مموجة- تتكفل بتبريد المياة- التي تخرج عبر أنابيب إلى فتحات ثلاث تعلوها نوافذ خشبية- وتطل على الشارع الذي يقف فيه الناس لتعبئة آنيتهم.

الكتاب:-

الكتاب بنوافذه الكبيرة

أعلى السبيل يوجد ذلك المتسع، الذي يتميز بشرف إضاءة وتهوية كبيرة تطل على الشارع -الذي يمر وسط المجموعة- فتجده مكانًا مناسبًا لاستيعاب أعداد كبيرة من التلاميذ، الذين يتوافدون لحفظ القرآن.

سقف المبنى:-

سقف المبنى

أعلى المبنى تجد قبابه: القبة الخشبية “للخانقاة”، والقبة الحجرية التي يعلوها خاتم السلطان- ويقول عنه “عبد الغفور”: يقرأ الخاتم من الوسط فالأعلى ثم الأسفل، ونصه “مولانا السلطان الأشرف أبو النصر قنصوة الغوري عز نصره”…

خاتم السلطان

وذلك بخلاف سياج من الزخارف المملوكية التي تحيط سقف المبنى، ومنه يمكن أن ترى مسجد قلعة محمد علي، ومئذنة مسجد الغوري، وشارع “المعز لدين الله” ومئذنة المسجد الأقمر، وكذلك المدينة الثنائية للجامع الأزهر- التي بناها السلطان “الغوري”- وتجاورها مئذنة المسجد الذهبي.

إنه المكان الذي يفرض نفسه على عين الزائر، لما ينطق به من رفعة الفن المعماري، الذي يشي بالتفرد والجمال… إنها جولة بسيطة في مكان يتركك مذهولا من روعة ما قد تراه “في بر مصر“…

سقف الخانقاه
سقف القبة
مئذنة الأزهر تظهر من سقف المبنى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى