مقالات

هلال عبدالحميد يكتب: محمد أبو الغار و «الفيلق المصري»

جاءني صوته- الذي يحمل دهشة العلماء، ويشعرني دومًا بأن مصر بخير-وقال : ازيك يا أستاذ هلال ، أنا لقيت وثيقة عن بلدكم ساحل سليم من وثائق ( المتحف الإمبريالي الحربي البريطاني ) ، وأخذ يقص بسلاسة قصة الوثيقة، والتي تمثل إحدى وثائق كتابه الوثائقي السياسي التاريخي والذي يحكي قصة مأساة أكثر من نصف مليون فلاح مصري ساقهم الإنجليز بمساعدة أعوانهم من مدراء أمن وكبار ضباط وعمد ومشايخ وبكوات وبشوات إلى خارج بلادهم مابين آسيا وأوروبا ليعاملوا معاملة العبيد، ويموت منهم عشرات الآلاف وهم يحفرون لاقامة خطوط السكك الحديدية وشبكات المياه ، تحت سياط ضباط الانجليز وعنجهيتهم وعنصريتهم، عاش نصف مليون فلاح مصري مأساة حقيقية لم يتذكرها أحد، وتم دفن عشرات الآلاف منهم في بلاد غريبة، لم يهتم أحد لا بحياتهم ولا بموتهم ولا بما نالهم من عذابِ بينهما حتى جاء المصري الأصيل ( محمد أبو الغار) ليرفع النقاب عن مأساتهم في كتابه المتفرد ( الفيلق المصري ) وكان قد حكي لي عن أسطورة شائعة في بلدنا عن ( ابن من عُرض عليه الملك فأبى ) فوجدتها مسطورة في كتابه ( ١١٤) نقلاً عن المفكر العروبي عصمت سيف الدولة في تناوله لأحداث الخرب العالمية الأولى وكيف تمكن الانحليز من سلخ مصر من الإمبراطورية العثمانية مع بداية الحرب وانهم -الإنجليزوضعوا مصر تحت الحماية وطردوا عباس حلمي الثاني سلطان مصر وبحثوا عن سلطان جديد ( وأشيع في البداري ان الانجليز سوف يختارون محمود باشا من ساحل سليم ملكًا ، واعتبر أهل البداري أن الملك أصبح عندهم، فانطلق رجال الشرطة والعمد والخفر والأعيان يؤدون التحية للملك القادم ، وكانوا سعداء أنهم دخلوا سرايا الملك ، واعتبروا أنفسهم أمراء وأقيمت الأفراح الشعبية وبدوءا يؤلفون أغاني للمدارس في حب محمود باشا واختار الإنجليز الأمير حسين كامل ليكون سلطانًا ) ويضيف ( أهالي مركز البداري -كانت ساحل سليم قرية تتبع مركز البداري -عاشوا شهورًا العاطفي والأحلام.واشاع محمود سليمان باشا أنه رفض الملك وام يحدث فعليًا أن عرض عليه الإنجليز أن يصبح سلطانًا أو ملكًا ) أبنه محمد محمود باشا أصبح رئيسًا للوزراء بعدها وكان يلقب بصاحب القبضة الحديدية
انتظرت الكتاب منذ مكالمة مؤلفه الهاتفية، وصدر الكتاب، وكنت بالصعيد وتحديدًا في ساحل سليم ، والتي تعرف ( ابوالغار ) عن قرب ، ويعرف هو شوارعها وقراها ومصاطبها
ذهبت بالأمس الى مكتبة( الشروق) بميدان طلعت حرب ، وبسلاسة لغته المقترنة بمرارة الحدث المأساوي ،والتي لا تتركك حتى تأتي على صفحات ( الفيلق المصري ) ، وتصل لمراجعه وصور وثائقه .
يأخذك (أبوالغار ) في كتابه ( الفيلق المصري ) لمحافظات الصعيد، ويصف لك كأبرع مخرج سينيمائي قصة إجبار الفلاحين على الالتحاق بالفيلق المصري ، وكيف تتكاتف كل قوى القهر على الفلاحين الغلابة لتخلعهم من جذورهم، ليساقوا كالعبيد ليلقوا في نيران صحراء فلسطين والشام ، وفي جليد فرنسا، في رحلة تبدأ باصطيادهم من غيطانهم وأسواقهم، والدفع بهم مربوطين بالحبال الغليظة ليعملوا قهرًا في خدمة الجيش الإنجليزي خلال الحرب العالمية الأولى : (فيحملون البضائع وينشئون خطوط السكك الحديدية ويمدون مواسير المياه) كل ذلك تحت نيران الحرب العالمية الأولى
( كان تجنيد عمال الفيلق يتم أساسًا في الريف، وبنسبة أكبر في الصعيد) لقد كانت وما زالت ( سلطة القيادات الشرطية ، والعمد وشيوخ الخفر في الريف كانت أكبر بكثير من قوة وسلطة الشرطة في المدن ونفوذها على المواطنين )
وبينما لم تهتم كتب التاريخ إلا بثورة ١٩ وهي ثورة المدن ، فقد جاء كتاب ( الفيلق المصري ) ليوثّق ثورة الريف، وكيف أن الصعايدة أخدوا ببعض ثأرهم من الإنجليز ومعاونيهم كنتيجة طبيعية لما حدث لأبنائهم على أيدي الإنجليز في ( الفيلق المصري )، فقطعوا خطوط السكك الحديدية وقتلوا عددًا كبير ا من الضباط الإنجليز ، ومن كبار موظفيهم المدنيين بالمديريات
ووصل عدد رجال الشرطة المصريبن الذين قتلوا أثناء فترة الحرب الى ٢٠٠رجل شرطة بالصعيد
يروي الكتاب كيف أن الإنجليز بمساعدة حكومة رشدي وحكمدارييه وضباطه وبشواته وعمده ومشايخ خفره سخروا المصريين واستعبدوا نصف مليون فلاح بما يعادل نصف عدد الفلاحين بمصر وقتها -كان عدد الفلاحين مليون فلاح من ١٢ مليون مصري )ويؤرخ الكتاب ما قام به الإنجليز من الاستيلاء على جمال الفلاحين وعلى محاصيلهم لتمويل المجهود الحربي ، وكيف أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت ارتفاعًا رهيبًا، مما جعل الفلاحين يرفضون تسليم محاصيلهم للإنجليز، وما أشبه الليلة بالبارحة ( هذا العام قامت حكومتنا بإرسال الفلاحين للمحكمة بتهمة عدم توريد محصول القمح لها وصدرت احكام كثيرة ضدهم )
ويتعجب ( أبوالغار ) من أن الانجليز أخدوا قرضًا من حكومة مصر بلغت قيمته ٣ ملايين جنيهًا استترلينيًا لتدفع منه بعض الملاليم لسخرة الفلاحين ، ويشير الكتاب الى أن الحكومة المصرية تنازلت للإنجليز عن قيمة القرض، بل وشكرت الإنجليز على قبول التنازل !!
ونتيجة لتسخير الفلاحين المصريين للمجهود الحربي الإنجليزي، والاستيلاء على المواشي والمحاصيل تأججت مشاعرالصعايدة ضد الانجليز وأدواتهم من المصريين
وينقل أبو الغار عن سلامة موسى قوله في استعباد الفلاحين بعد ان تم إغلاق مجلته ( المستقبل) وترحيله للريف (ورُحلت إلى الريف ورأيت كيف كان يسلط الانجليز علينا الموظفين المصريين من مأموريين ومديرين وحكمداريين وشرطة لخطف محصولاتنا ، وكانت الجمال والحمير بل الرجال يُخطفون أيضًا كما لو كانوا في قرية زنجية على خط الاستواء قد انقض عليهم النخاسون لخطف سكانها وبيعهم في سوق الرقيق) ويواصل سلامة موسى وصفه المأساوي وكيف تعاون بعض رجال الدولة وموظفيها في إهانة وإذلال أبناء جلدتهم وسلموهم للانجليز كالعبيد فينقل عنه أبو الغار ( وكان المنظر يهين النفس كما يفتت القلب، فكان الرجل يربط بالحبل الغليظ من وسطه وخلفه أمثاله ويسيرون على هذه الحال حتى يصلوا الى المركز فيحبسوا في غرفة المتهمين ثم يرحلوا إلى فلسطين )
كانت الحكومة تعمل حسابًا لبشوات ( ساحل سليم ) وتخشى ان تذهب لتأخذ فلاحين من هناك، ولكن عندما تم استئذان باشوات ساحل سليم سمحوا لهم ، وتم تسخير أعداد كبيرة من الفلاحين بمركز البداري ، وكانت ثورة الهمامية بالبداري عارمة على الإنجليز ، والتي لم يتطوع منها بالفيلق المصري إلا ( يونس والباقين تم اخذهم قسرًا وكان يمكن اعفاء الشاب اذا التدته عائلته باربعين جنيهًا توزع بين العمد والوسطاء ومندوب الدمرداش وتحول الامر إلى تجارة )
وكذا يؤرخ ( الفيلق المصري ) لأصطياد أهالي ديروط للقطار رقم (٨٩) والذي كان يحمل ضباطًا انجليز تحرك بهم من الأقصر الساعة ٨:١٠ مساءً ليصل الى ديروط وعلى متنه ستة من الضباط الإنجليز ومفتش السجون الإنجليزي الكسندر بوب بك وهجم مئات من الفلاحين على القطار وقتلوا الجميع )
وتعرضت أسيوط للضرب بالطائرات لإخماد ثورة الصعايدة ضد الإنجليز ومعاونيهم من المصريين
وينقل كتاب ( الفيلق المصري ) رسائل لضابط انجليزي يدعى ( وينبلز ) كان يكتب مذكراته ويرسل خطابات لصديق وعلى الرغم من وصف الضابط بأنه متفتح الا ان معاملته للفلاحين ووصفه لهم في خطاباته كانت عنصريه

    وفي الفصل السابع ( العنصرية  والفيلق المصري ) من كتابه يقول دكتور أبوالغار ( أكاد أجزم بعد الاطلاع على الأعداد الكبيرة من الوثائق التي تضم تصريحات وقرارات وتصرفات ، وكذاك الاطلاع  على خطابات وحكايات وكتب بعض الضباط الإنجليز، أن معاملة  البريطانيين للفلاحين المصريين كانت شديدة العنصرية ) 
         لقد ساهمت الحكومة المصرية برئاسة حسين رشدي باشا في إذلال المصريين بدلًا من أن  تدافع عنهم، ورضخت لحكومة بريطانيا ولمطالبها ولاستعبادها للمواطنين المصريين بل كافأت حكومتنا حكومة بريطانيا على استعباد مواطنينا  بقرض تنازلت عنه فصار  منحة ‼️
 الحقيقة أن ( أبو الغار )  باحث مصري ووطني حتى النخاع ولقد عملت بالسياسة منذ ان كنت بالمرحلة الثانوية ولم اتعامل مع سياسي مصري بنقاء ( أبو الغار ) ففوق انه عالم يمتلك دهشة الاكتشاف ، إلا انه فوق كل ذلك بل وقبله يمتلك ضميرًا حيًا، ووطنية أصيلة، ويفعل ما يؤمن به تمامًا،ولم يقع يومًا في براثن التغريب كما يقع بعض المثقفين ، ممن يعتقدون أن التخلف والتطرف عندنا كعرب وكشرقيين هيكليًا، وبأن الغرب قمة التحضر والتمدين ( وكأن الشرقيين هم من استعبدوا الناس وبنوا غناهم من استعباد الناس ! وكأن من قتل عشرات الملايين في حربين  عالميتين كانوا من الشرق وكأن  جرب القنبلة النووية على البشر، ومن دمر العراق وأفغانستان وقتل الأبرياء كانوا من الشرق !!
             الحقيقة أيضًا أن كتاب ( الفيلق المصري ) بحث تاريخي سياسي موثق ومكتوب بلغة قريبة من لغة الرواية ، شكرًا ( أبوالغار ) فاسمك فوق كل الألقاب وأنت من بين السياسيين القلائل من التيار المدني الذين يعتبرون أن مصر ليست وسط البلد وفقط 

فهل تعتذر لنا بريطانيا العظمى عما حدث ؟!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى