مقالات

في ذكرى موقعة فخ 8 ذي الحجة.. تشابه أحداثها مع واقعة الطّف وتأسيس دولة الأدارسة بالمغرب

قلم وصوت ومحام آل البيت

الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد

لمعت في سماء التَّأريخ الإسلامي وآفاقه أماكن وأحداث وشخصيات، ونزفت من قلب هذه الأمة وشرايينها دماءً طاهرة سقت شجرة الإيمان، وخطت فصول المجد والجهاد بأحرف مضيئة وبعناوين لامعة، ومن هذه الأماكن والأحداث والشخصيات والدماء أرض فخ ووقعتها الكبرى وقائدها العلوي الحسين بن عَلِيّ الخير (رضوان الله عليه) صاحب فخ، مع الكوكبة النيرة من طلائع آل أبي طالب، فكانت فخ حقا نجما في سماء التاريخ، امتدادا لواقعة طف كربلاء المقدسة، من أجل أن يعم العدل والمساواة بين أبناء الدين الإسلامي وتحرر النَّاس من الظّلم والاستبداد ، فحدثت ثورة فخ ضد الظّلم والجور الذي حلَّ بالأمَّة الإسلاميَّة إبان حكم بني العبَّاس، فكان لابد من تضحيات بخصوص هذا الشأن ولابد من أشخاص خلَّص يقومون بهذه التضحيات، فمن الذين ضحوا بالغالي والنّفيس هم آل بيت النّبوَّة الأطهار (عليهم السَّلَام)، فقاموا بالعديد من الثّورات سبقت ثورة واقعة فخ الأليمة، جميعها كانت امتدادًا لواقعة طف كربلاء؛ ثورة زيد الشَّهِيد بن عَلِيّ السَّجَّاد (عليهما السَّلَام)، ومنها أيضًا ثورات آل الحَسَن المُجْتَبَى (عليهم السَّلَام)؛ كثورة مُحَمَّد الملقَّب بـ(النَّفس الزَّكيَّة) وأخيه إبراهيم قتيل باخمرا ، ابناء عبد الله المَحض بن الحَسَن المُثَنَّى بن الإمام الحَسَن المُجْتَبَى بن الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليهم السَّلَام)، وبعدها حدثت ثورة فخ بقيادة الثَّائر الحسني العلوي الحُسَين صاحب فخ (عليه رضوان الله)، وهي عظيمة في أحداثها وفجيعتها كمعركة الطَّف.

حدثت هذه الواقعة الأليمة ثورة فخ في زمن الإمام مُوسَى بن جَعْفَر الكَاظِم (عليهما الصَّلَاة والسَّلَام) في منطقة وادي فخ، وهو موقع قرب مكة المكرَّمة، على رأس فرسخ، وحدثت بين الحق المتمثّل بالعلويّين وأشياعهم، ومع الباطل المتمثّل ببني العبَّاس وكان آنذاك الحاكم هو موسى العباسي حفيد الدّوانيقي، في سنة 169هـ، أمَّا عن سبب تسميتها بهذا الاسم؛ وذلك لأنَّ معركة ثورة فخ حدثت قرب وادي فخ المذكور آنفًا، لذلك سميت باسمه المرجعيات الاجتماعية لقائد ثورة فخ

قبل وقوع معركة فخ لم تنقطع ثورات آل البيت منذ أن استشهد الحسين بن علي في معركة كربلاء، في العاشر من المحرم سنة 61هـ، وكانت نتيجة هذه المعركة مأساة أدمَتْ قلوب المسلمين حزنًا على الحسين، ريحانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعد أكثر من نصف قرن من مقتل الحسين أعلن حفيده زيد بن علي بن الحسين الثورة على الخليفة الأموي سنة 121هـ، وتكررت المأساة نفسها؛ فلم يكن معه من القوة والرجال ما يضمن له النجاح والظفر، لكنه انخدع ببيعة أهل الكوفة، حتى إذا جدّ الجدَّ وظهرت معادن الرجال انفضوا عنه وتركوه يلقى مصيره المحتوم أمام يوسف بن عمر الثقفي والي الكوفة الذي نجح في القضاء على تلك الثورة، وقتل مفجرها زيد بن علي. ولم تنقطع ثورات العلويين بعد تولي أبناء عمومتهم العباسيين الخلافة، وإعلانهم أنهم أحق بها منهم، وقابل العباسيون ثورات أبناء العمومة بكل شدة وقسوة، ونجح أبو جعفر المنصور في القضاء على ثورة “محمد النفس الزكية”، الذي كان معروفًا بالتقوى والفضل وفي مقدمة سادات بني هاشم خلقًا وعلمًا وورعًا، وانتهت ثورته باستشهاده سنة (145هـ = 762م)، ولم تكن ثورة أخيه إبراهيم أفضل حالاً من ثورته، فلقي مصرعه في السنة نفسها، واطمأن أبو جعفر المنصور على سلطانه، واستتب له الأمر.

الإمام الحسين بن علي بن الحسن المثلث عليه السلام

شهيد فخ هو الحسين بن علي بن الحسن المثلث ابن الامام الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السبط ابن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليهم‌ السلام، أبو عبد الله، وأمه زينب بنت الإمام عبد الله المحض بن الإمام الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام، قتل المنصور العباسي أباها وأخاها وزوجها وعمومتها وبنيهم أيام النفس الزكية. كان الحسين من أشراف الطالبيين الشجعان الكرماء، يضرب المثل بجوده وكرمه وطيبة نفسه، بيد أن الفترة التي عاشها ابّان حكم الهادي المتعطش لدماء العلويين تعدّ من أقسى الفترات الرهيبة في تاريخ الطالبيين، فقد مضى الهادي إلى آخر الشوط في استأصال زينة شبابهم، وأسرف في ممارسة القمع والارهاب معهم، مما اضطرهم إلى إعلان الثورة عليه حيثما توفرت الفرصة لذلك.

قال اليعقوبي: ظهر منه – أي الهادي العباسي – أمور قبيحة، وضعف شديد، فاضطربت البلاد، وتحرك جماعة من الطالبيين، وصاروا إلى ملوك النواحي فقبلوهم ووعدوهم بالنصر والمعونة، وذلك أن موسى ألحّ في طلب الطالبيين وأخافهم خوفاً شديداً، وقطع ما كان المهدي يجريه لهم من الأرزاق والاُعطيات، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم، فلما اشتدّ خوفهم وكثر من يطلبهم ويحث عليهم، عزم الشيعة وغيرهم إلى الحسين بن علي بن الحسن، وكان له مذهب جميل وكمال ومجد، فبايعه خلق كثير ممن حضر الموسم

فقرر الحسين الثورة، وكان خروجه بالمدينة في ذي القعدة سنة (169 ه‍)، وبايعه الناس على العمل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أن يطاع الله ولا يعصى، والدعوة إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله، والعدل في الرعية، والقسم بالسوية، وجهاد العدو.

واستولى الحسين على المدينة فاستخلف عليها دينار الخزاعي، وخرج قاصداً مكة ومعه زهاء ثلاثمائة من أهله ومواليه وأصحابه، فلما صاروا بفخ وبلدح في ضواحي مكة تلقتهم الجيوش العباسية، في يوم التروية سنة (169 ه‍)، وكان القتال شديداً، فانهزم من كان معه، وصبر لهم الحسين محتسباً حتى قتل مع جماعة من أهله، وحملوا رؤوسهم إلى الهادي العباسي مع جمع من الأسرى فأمر بهم فضربت أعناقهم.

وذكر الرواة أنه حين جاء الجند بالرؤوس إلى موسى والعباس وعندهم جماعة من ولد الحسن والحسين، فلم يتكلم أحد منهم بشيء إلاّ موسى بن جعفر عليهما‌ السلام فقيل له: «هذا رأس الحسين. قال: نعم، إنا لله وإنا إليه راجعون،
مضى واللّه مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله، فلم يجبه أحد بشيء».

واقترف العباسيون ابّان هذه الحرب جرائم تشابهت مع جرائم الأمويين في كربلاء، فقد رفعوا رؤوس العلويين على الرماح، وطافوا بأسراهم في الأقطار وهم مقيدون بالسلاسل، ثم أجهزوا عليهم فقتلوهم صبراً وصلبوهم، وتركوا شهداء أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مجزرين تسفي عليهم الريح مبالغة منهم في التشفّي والانتقام، ذكر المؤرخون: بقي قتلاهم ثلاثة أيام دون أن توارى في الثرى حتى أكلتها الحيوانات الضارية والطيور الجارحة، ولهذا يقال: لم تكن مصيبة بعد كربلاء أشد وأفجع من فخ. وروى أبو نصر البخاري عن أبي جعفر الجواد عليه‌السلام أنه قال: «لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ».

فخ هم للثورة واصبحت « يثرب » بعدُ حُرة

وهرب الوالي بغير حربِ

سوى رجال قتلوا بالضربِ

وخرج الحسين نحو الكعبه

وهو يناجي في الخفاءِ ربه

ثم استعد الجندُ للقراعِ

ويثربُ والٍ بها « الخزاعي »

وجدَّ بالمسير حتى وصلا

« فخاً » فحط عندها مبتهلا

فأرسل ( الهادي ) جيوشاً تترا

لعلها تظفرُ بابن الزهرا

يقودها في سعيها العباسُ

وبعدهُ موسى وجُرَ الناسُ

واشتعلت معركةٌ مدوية

حيث التقى الجشيان يومَ التروية

فطارت الرؤوسُ والرقابُ

وانثلمت بضربها الحرابُ

وصارت السهام مثل المطرِ

وسالت الأرض بسيلٍ أحمرِ

وطاول الحسين سهمُ الغيِّ

يُطلق من « حمادٍ التركيِّ »

واستشهدَ الثوار بعد صبرِ

وامعنت فيهم رماح الغدرِ

وترك الحسين في العراءِ

مضمخاً بأطهرِ الدماءِ

ملقىً بلا غسل ولا تكفينِ

مضرحاً كجدهِ للدينِ

وأرسلت رؤوسهم للهادي

وشمتت في ذلك الاعادي

وامر الطاغي بقتل الاسرى

فقتلوا مقيدين صبرا

وصلبوا على جدار الحبسِ

من الصباح لمغيب الشمسِ

وحزن الإمام موسى الكاظمُ

ونُكست من هاشم العمائمُ

معركة فخ بالقرب من مكة

وبعد فشل هاتين الثورتين قامت حركات لبعض العلويين في اليمن وخراسان، لكنها لم تلقَ نجاحًا، وأصابها مثل ما أصاب ما قبلها من ثورات، وعاش من بقي من آل البيت العلوي في هدوء، وربما استخفوا حتى يتمكنوا من إعداد العدة للخروج وهم مكتملو القوة والعدد، وظلت الأمور على هذا النحو من التربص والانتظار حتى حدث نزاع صغير بين والي المدينة المنورة وبعض رجال من آل البيت أساء التعامل معهم ، وأهانهم وأغلظ القول لهم، فحرك ذلك مكامن الثورة في نفوسهم ، وأشعل الحمية في قلوبهم ، فثار العلويون في المدينة بقيادة الحسين بن علي بن الحسن عليه السلام ، وانتقلت الثورة إلى مكة بعد أن أعلن الحسين البيعة لنفسه، وأقبل الناس عليه يبايعونه. ولما انتهى خبر هذه الثورة إلى الخليفة العباسي موسى الهادي ، أرسل جيشًا على وجه السرعة للقضاء على الثورة، قبل أن يمتد لهيبها إلى مناطق أخرى؛ فيعجز عن إيقافها ، فتحرك الجيش العباسي إلى مكة، والتقى بالثائرين في (8 من ذي الحجة 169هـ = 11 من يونيو 786م) في معركة عند مكان يسمى “فخ” يبعد عن مكة بثلاثة أميال ، وانتهت المعركة بهزيمة جيش سيدنا الحسين، ومقتله هو وجماعة من أصحابه.

نجاة الإمام إدريس مؤسس دولة الأدارسة من معركة فخ

وكان ممن نجا من قادة الثائرين في هذه المعركة “ الإمام إدريس بن عبد الله بن الإمام الحسن المثنى”، واتجه إلى مصر ومعه خادمه راشد، وكان شجاعًا عاقلاً وفيًا لسيده، وظل أمرهما مجهولاً حتى بلغا مصر مستخفيْن في موكب الحجيج، ولم يكن اختفاؤهما أمرًا سهلاً؛ فعيون الخلافة العباسية تتبعهما وتقتفي أثرهما، ولم تكن لتهدأ وتطمئن قبل أن تعثر على الإمام إدريس بن عبد الله حيًا أو ميتًا، لكنهما نجحا في التحرك والتخفي؛ لا لمهارتهما في ذلك، ولكن لحب الناس آل البيت، وتقديم يد العون والمساعدة لهما. ومن مصر خرج إدريس وخادمه “راشد” إلى بلاد المغرب، ويقال: إن هذا الخادم كان بربريَّ الأصل، وساعدهما على الخروج من مصر عامل البريد بها؛ فقد كان متشيعًا لآل البيت، فلما علم بوجودهما في مصر قدم إليهما في الموضع الذي يستخفيان به، وحملهما على البريد المتجه إلى المغرب.

وتذهب روايات تاريخية إلى أن الذي أعان إدريس على الفرار من مصر هو “علي بن سليمان الهاشمي” والي مصر، وأيًا ما كان الأمر فإن إدريس لقي دعمًا ومساعدة لتمكينه من الخروج من مصر، سواءً كان ذلك بعون من والي مصر أو من عامل البريد.

رحلة شاقة للإمام إدريس مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب

وبعد أن وصل إدريس بن عبد الله إلى برقة تخفى في زي خشن، يظهر فيه بمظهر غلام يخدم سيده “راشد”، ثم سلكا طريقًا بعيدًا عن طريق إفريقية إمعانًا في التخفِّي، وخوفًا من أن يلتقي بهما أحد من عيون الدولة العباسية التي اشتدت في طلبهما، حتى وصلا إلى تلمسان سنة (170هـ = 786م)، وأقاما بها عدة أيام طلبًا للراحة، ثم استأنفا سيرهما نحو الغرب، فعبرا “وادي ملوية”، ودخلا بلاد السوس الأدنى، حيث أقاما بعض الوقت في “طنجة” التي كانت يومئذ أعظم مدن المغرب الأقصى، ثم واصلا سيرهما إلى مدينة “وليلى”، وهي بالقرب من مدينة مكناس المغربية، واستقرا بها بعد رحلة شاقة استغرقت حوالي عامين.

الإمام إدريس في وليلي

في وليلى وبعد أن استقر إدريس في وليلى (قصر فرعون حاليًا) اتصل بإسحاق بن محمد بن عبد الحميد زعيم قبيلة “أوربة” البربرية، صاحبة النفوذ والسيطرة في “وليلى”، فلما اطمأن إليه إدريس عرفه بنسبه، وأعلمه بسبب فراره من موطنه؛ نجاة بنفسه من بطش العباسيين، وقد رحب إسحاق بضيفه الكبير، وأنزله معه داره، وتولى خدمته والقيام بشأنه شهورًا عديدة، حتى إذا حل شهر رمضان من السنة نفسها جمع إسحاق بن محمد إخوته وزعماء قبيلة أوربة، وعرفهم بنسب إدريس وبفضله وقرابته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكرمه وأخلاقه وعلمه؛ فرحبوا جميعًا به، وأعربوا عن تقديرهم له، وبايعوه بالخلافة في (14 من رمضان 172هـ = 15 من فبراير 788م)، وبعد ذلك خلع “إسحاق بن عبد الحميد” طاعة بني العباس حيث كان من ولاتهم، وتنازل لإدريس عن الحكم. وتبع ذلك دعوة لإدريس بين القبائل المحيطة، فدخلت في دعوته قبائل: زناتة، وزواغة، وزوارة، ولماية، وسراته، وغياشة، ومكناسة، وغمارة، وباعيته على السمع والطاعة، واعترفت بسلطانه، وقصده الناس من كل مكان.

استقرت الأمور لإدريس بن عبد الله، ورسخت أقدامه بانضمام كل هذه القبائل إلى دعوته، ودانت له معظم قبائل البربر، وبدأ يطمح في مدّ نفوذه وسلطانه إلى القبائل التي تعترف بحكمه، ونشر الإسلام بين القبائل التي لا تزال على المجوسية أو اليهودية أو المسيحية، فأعد جيشًا كبيرًا زحف به نحو مدينة “شالة” قبالة مدينة الرباط، ففتحها، ثم تحول في كل بلاد “تامسنا” فأخضعها، وأتبع ذلك بإخضاع إقليم “تاولا”، وفتح حصونه وقلاعه، وأدخل كثير من أهل هذه البلاد الإسلام، ثم عاد إلى “وليلى” للراحة والاستجمام في (آخر ذي الحجة 172هـ = مايو 789م)، ثم عاود حملته الظافرة عازمًا على دعوة من بقي من قبائل البربر إلى الإسلام، ونجح في إخضاع قبائل: قندلاوة ومديونة وبهلولة وغيرها من القبائل البربرية التي كانت متحصنة بالجبال والحصون المنيعة، ثم رجع إلى وليلى في (15 من جمادى الآخرة 173هـ = 10 من أكتوبر 789م).

فتح الإمام إدريس لتلمسان

فتح تلمسان وبناء مسجدها أقام إدريس بن عبد الله شهرًا في وليلى، ثم عاود الفتح، واتجه ناحية الشرق هذه المرة، عازمًا على توسيع ملكه في المغرب الأوسط على حساب الدولة العباسية، فخرج في منتصف رجب 173هـ = نوفمبر 789م متجهًا نحو تلمسان، وفي أثناء زحفه استولى على مدينة “سبتة”، ولم يكد يصل إلى “تلمسان” حتى خرج إليه صاحبها “محمد بن خرز”، وأعلن خضوعه له دون قتال، وبايع الإمام إدريس بن عبد الله عليهما السلام، وتبعته قبائل: مغراوة وبني يفرده.

ولما دخل الإمام إدريس عليه السلام تلمسان أقام بها مسجدًا للمدينة جامعًا، وصنع منبرًا جميلاً كان يحمل نقشًا يحدد تاريخ إنشائه، ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أمر به إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وذلك في شهر صفر 174هـ، وهذا يعني أن إدريس أقام في تلمسان حتى هذا التاريخ، ثم كرَّ راجعًا إلى عاصمة ملكه.

نهاية الإمام إدريس الأول الناجي من معركة فخ

ولم تكد تصل هذه الفتوحات إلى عاصمة الخلافة العباسية حتى فزع الخليفة هارون الرشيد، وشعر بالقلق والذعر من النجاح الذي يحققه الإمام إدريس بن عبد الله عليهما السلام، الذي نجح فيما فشل فيه غيره من أبناء البيت العلوي؛ فلأول مرة ينجحون في إقامة دولة لهم بعد إخفاقات عديدة ومآسٍ دامية، ثم اشتد خوف الخليفة العباسي حين جاءته الأخبار بعزم الإمام إدريس بن عبد الله عليهما السلام على غزو أفريقية (تونس)، ففكر في إرسال جيش لمحاربة هذا العلوي المظفر، وبينما الرشيد على هذه الحال من القلق والاضطراب تدخلت الأقدار، وأراحته مما كان يفكر فيه، فتوفي الإمام إدريس بن عبد الله مسموماً على يد الشماخ في (سنة 177هـ = 793م) بتحريض من الخليفة العباسي هارون الرشيد، بعد أن الإمام إدريس نجح في تحدي الصعوبات، وأقام دولة عُرفت باسمه “دولة الأدارسة” بعيدًا عن وطنه بين قبائل متطاحنة تعتز بعنصريتها، وتتخذ من قوتها وسيلة لفرض سيطرتها على من حولها، وهذه تُحسب له، وتجعله واحدًا من كبار رجال التاريخ. ويضاف إليه أن المغرب مدين له في نشر الإسلام في أماكن لم يكن قد وصل إليها من قبل.

كان راشد، حاجب المولى إدريس، لا يثق بالشماخ، ولا يفارق السلطان أثناء حضوره، و شكل غياب راشد عن المولى إدريس يومها لقضاء حاجة فرصة عظيمة للشماخ الخائن، فدخل على السلطان كالعادة وتحدث معه، ثم عرض على المولى إدريس قارورة من طيب مسموم، وقال له هذا طيب جلبته معي و هو من أجود الأنواع و السلطان أولى به مني، فشكره المولى إدريس و فتح القارورة واشتم ما فيها، فصعد السم إلى خياشيمه ثم إلى دماغه فسقط ميتا أمام كرسيه على الأرض.

لاذ القاتل بالفرار بعد ذلك فركب جواده وتوجه على وجه السرعة نحو المشرق، وطارده راشد بوادي ملوية و ضرب رأسه وقطع يده لكنه تمكن من الفرار، ثم عاد إلى القصر وشرع في إعداد جنازة المولى إدريس، وقد تمت مبايعة المولى إدريس الثاني وهو في بطن أمه كنزة، إلى أن وصل إلى سن الثالثة عشرة، حيث تولى الملك.

يمكن القول بأن عام 172 و 173هـ، شنَّ الإمام إدريس غزواتٍ قوية ضد القبائل البربرية الأخرى غير المسلمة، وانتصر عليها انتصاراتٍ كُبرى، ووطَّدَ دولته في المغرب الأقصى. ثم في النصف الثاني من عام 173هـ، اتجَّه إدريس الظافر إلى الشرق، وحاصر تلمسان، حاضرة المغرب الأوسط، فاستسلمت المدينة، وبايعتْه.

ذاعت أخبار هذا الانتصار الخطير في كافة أرجاء العالم الإسلامي، وأثارت قلق هارون الرشيد العباسي في بغداد، والذي خشي أن يقوى أمر إدريس عليه السلام، ويطمع في التمدد شرقًا أكثر فأكثر وصولًا إلى القيروان فطرابلس فمصر، ومن ثمَّ، يشكل تهديدًا جذريًا للخلافة العباسية نفسها. عقد الرشيد اجتماعًا طارئًا لبحث أمر دولة إدريس مع كبار رجال البلاط العباسي، وفي مقدمتهم الوزير يحيى البرمكي الداهية، والذي اقترح على الرشيد أن يرسل من يغتال إدريس، لأن إرسال جيش كبير يقطع كل تلك المسافة، ليس حلًا عمليًا.

أرسلَ الرشيد رجلًا يسمى سليمان الشمَّاخ، والذي نجح في اختراق الدولة الإدريسية الناشئة، إذ أظهر أنه منشق عن العباسيين، وكان خطيبًا مُفوَّهًا، ظلَّ لأشهر يدعو بدعوة الإمام إدريس، ويدافع عن آل البيت، ويتحدث عن مظالمهم، مما أكسبه ثقة إدريس، وارتفعت مكانته لديْه كثيرًا، حتى أصبح في أقرب الدوائر إليه. استغلَّ الشمَّاخ انشغال راشد في أحد الأيام، وأهدى للإمام إدريس عطرًا مسمومًا – وقيلَ سواك مسموم – فأصيب بما يشبه الغيبوبة، ثم تُوفيّ بعد يومٍ واحد، بينما فرَّ الشمَّاخ إلى سيده ببغداد لينال الجائزة.

عندما علم راشد بالخبر المفجع، وباختفاء الشمَّاخ، طارده مع بعض الفرسان، وكادوا يتقبَّضون عليه، لكنه فرَّ بأعجوبةٍ مُصابًا بيدٍ واحدة لقوة فرسه. عاد راشد إلى حاضرة الأدارسة وليلي، وأشرف على تكفين الإمام ودفنه، ثم جمع قادة البربر الموالين للدولة الإدريسية لبحث أمر الحكم بعد اغتيال الإمام، وكانت هذه الأحداث عام 177هـ.

أَيهَا الشَّيْخ الْمُبَارك، مَا لنا رَأْي إِلَّا مَا رَأَيْت فَإنَّك عندنَا عوضٌ من إِدْرِيس، تقوم بأمورنا كَمَا كَانَ إِدْرِيس يقوم بهَا، وَتصلي بِنَا، وتقضي بَيْننَا بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله ..
—قادة البربر مخاطبين راشد بعد اغتيال الإمام إدريس

وافق زعماء البربر على اقتراح راشد بانتظار أن تضع جارية الإمام التي تسرَّى بها حملَها، فإن كان ولدًا، أصبح إمامًا بعد أبيه، وأن يرعاه راشد حتى يبلغ ويدير الأمور بنفسه، وكان لراشد احترامٌ واسعٌ لدى الجميع لمكانته العظيمة لدى الإمام المغدور.

جاءت الأقدار بالخبر السعيد بعد أسابيع، ووضعت الجارية البربرية كنزة مولودًا ذكرًا، اعتبره كلُّ من شاهده نسخةً من أبيه، فأسماه راشد إدريسَ على اسم أبيه. إلى جانب مهام راشد في إدارة الدولة الفتية وترسيخ دعائمها في مناطق سيطرتها، ركَّز راشد على أخطر المهام الموكلة إليه، وهي حماية وتنشئة الطفل إدريس ليستطيع أن ينهض بالمهمة الخطيرة التي يُؤهَّل لها في سنوات حياته اللاحقة.

لم يكد الطفل إدريس يُتم عامه الثامن، حتى كان راشد قد أتمَّ تحفيظه القرآن الكريم كاملًا، ثم شرع في تعليمه العلوم الشرعية، واللغة العربية وآدابها، والشعر العربي، وتواريخ الأمم والملوك المختلفة، إلى جانب تعليمه مبادئ الفنون القتالية والرماية، وأصبح عامًا بعد عام أقرب من اللحظة التي يستطيعُ فيها أن يتولَّى شؤون نفسه، وقيادة الدولة التي أسَّسَها أبوه.

عام 188هـ، وبينما اقترب إدريس بن إدريس من إتمام عامه الحادي عشر، حدثت فاجعة كبرى كادت أن تزلزل الدولة الإدريسية، فقد تمكَّن والي تونس للعباسيين إبراهيم بن الأغلب من رشوة بعض البربر المحيطين براشد، فنجحوا في اغتياله على حين غرة، بعد أكثر من 15 عامًا من وصوله إلى المغرب لاجئًا، وقيامه بمهمة الوصاية على دولة الإمام إدريس لما يقارب عقدًا من الزمن.

التفَّ البربر وقادتهم من أصحاب الولاء للأدراسة حول الفتى إدريس بن إدريس، وبايعوه إمامًا في شهر ربيع الأول من عام 188هـ، بعد ما يقارب 20 يومًا من اغتيال مربيه راشد، وخطب إدريس الثاني يوم البيعة خطبةً عصماء رغم حداثة سنه، أكدت لجموع الحاضرين مدى ذكائه وتفرده، وكذلك روعة ما بذله راشد في تأديبه وتعليمه.

ويعتبر إدريس بن إدريس، هو المؤسس الثاني لدولة الأدارسة، فقد قويتْ الدولة في عهده كثيرًا، وانساب إليها الآلاف من المؤيدين من العرب والبربر، حتى ضاقت بهم العاصمة وليلي، فبنىَ عاصمةً جديدةً لدولته هي مدينة فاس التاريخية الشهيرة. وفي عام 202هـ، استضاف إدريس بن إدريس في فاس الآلاف من اللاجئين الأندلسيين من ثوار الرَّبَض الذين قمع حاكم الأندلس الحكم بن هشام الأموي ثورتهم، ودمرّ ربض قرطبة، ونفاهم منه. وشنَّ إدريس العديد من الحملات العسكرية القوية والتي ضمَّ خلالَها معظم أجزاء المغرب الأقصى إلى دولته، وأفسد محاولات الأغالبة ملوك تونس الموالين للعباسيين لاستهدافه ودولتِه، وتوفَّي عام 213هـ، ودولته تمتد من المحيط الأطلسي غربًا إلى الجزائر شرقًا.

تشابه الأحداث بين واقعة الطّف وواقعة فخ:

من وقف على مأساة واقعة ثورة فخ وفجيعتها، يجدها أنّها تكرار لواقعة ثورة طف كربلاء وصدى لصوت الإمام الحُسَين السّبط الشَّهِيد (عليه السَّلَام) الهادف إلى الحقِّ، فواقعة فخ التي ضارعت مأساة طف كربلاء في آلامها وشجونها، وقد تحدَّث الإِمَام الجَوَاد بن عَلِيّ الرِّضَا (عليهما السَّلَام) عن مدى أثرها البالغ على أهل البيت (عليهم السَّلَام) بقوله: (لم يكن لنا بعد الطَّف مصرع أعظم من فخ)، فقد حملت فيها رؤوس العلويّين (عليهم السَّلَام) وتركت جثثهم في العراء، وسيق الأسارى من بلد إلى بلد، وقد قيّدوا بالحبال والسَّلاسل، ووضعوا في أيديهم وأرجلهم الحديد، وأدخلوا على موسى العبّاسي فأمر بقتل بعضهم فقتلوا صبرًا وصلبوا على باب الجسر ببغداد؛ مثلما حدث في يوم طف كربلاء عندما أُستشهِد الإمام الحُسَين وأنصاره (عليهم السَّلَام)، وسُبي عياله وأهل بيته (عليهم السَّلَام) من الأطفال والنّساء وأخذوا أُسارى، وبقيت أجساد الشّهداء (عليهم السَّلَام) في العراء ثلاثة أيَّام مقطوعة الرّؤوس، وكان قلب السَّيِّدة زينب بنت عبد الله المحض بن الحسن المُثنَّى (عليهم السَّلَام) مُليءَ حُزًنًا وألمًا ولوعة على فقد ولدها الحُسَين صاحب فخ وقبله أبيها عبدالله المحض وزوجها عَلِيّ الخير وأخوتها (عليهم السَّلَام) الذي قتلهم الدّوانيقي في سجن الهاشميَّة، كقلب جدتها السَّيِّدة زينب الكُبرى بنت الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليهما السَّلَام) على فقد أخيها الإمام الحُسين وأنصاره (عليهم الصَّلَاة والسَّلَام)، وكان من أهداف واقعة فخ كأهداف واقعة الطَّف، وهو من أجل استمرار المبادئ الإسلاميَّة والعمل بها؛ كعدم القبول بالباطل والرّضوخ له، والتّحررّ من الظّلم والاضطهاد ومن أجل الإصلاح الاجتماعي، وأن يعم العدل والمساواة بين طبقات الرَّعيَّة وغيرها من الأهداف الإصلاحيَّة الأخرى لا لأهداف دنيوية شخصيَّة، فكانت واقعة فخ مرآة لواقعة طف كربلاء في تشابه الأحداث والأهداف، وكذلك من الأحداث الأخرى المتشابهة بين الواقعتين هو أن العمري أحرق دار الحسين صاحب فخ ودور بني هاشم ولعمري أقتدى بمن وقف على باب دار علي وفاطمة وأضرم النَّار في الباب وأراد أن يحرق عَلِيًّا وفَاطِمَة والحَسَن والحُسَين وزينب وأم كلثوم (عليهم الصَّلَاة والسَّلَام أجمعين) بالنَّار، وهذا أيضًا كان قد حدث في يوم الطَّف عندما حرق جيش يزيد –لعنهم الله جميعًا مع من كان يقودهم- خيام العلويّين (عليهم الصَّلَاة والسَّلَام) وأنصارهم وغيرها من الأحدث المتشابهة بين الوقعتين

ممَّا روي في إخبار النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) بواقعة فخ وفضل شُهدائها:

كانت هذه الواقعة (واقعة فخ) عظيمة على نفس رسول الله وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) وكان قد أُنبئ عنهما وبكى ألمًا ولوعة لما يجرى على أهل بيته فيهما، ففجع (صلَّى الله عليه وآله) فيها كما فجع قبلها في طف كربلاء، فروي عن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلِيّ البَاقِر (عليهم السَّلَام)، قال: (مرَّ النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بفخ فنزل فصلَّى ركعة، فلمَّا صلَّى الثَّانية بكى وهو في الصَّلَاة، فلمَّا رأى النَّاس النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يبكي بكوا، فلمَّا انصرف (صلَّى الله عليه وآله) قال: ما يبكيكم؟ قالوا: لما رأيناك تبكي بكينا يا رسول الله، قال (صلَّى الله عليه وآله): نزل عَلَيّ جبريل لما صلَّيت الرّكعة الأولى فقال: يا مُحَمَّد، إنَّ رجلّا من ولدك يقتل في هذا المكان، وأجر الشَّهِيد معه أجر شَهِيدَين)، فنلاحظ عن طريق هذه الرّواية أن لشُهداء فخ فضل عظيم من الله (عزَّ وجلّ).

فإلى هذا المقام نختم هذا البحث المختصر عن فاجعة فخ الأليمة، وأن الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلَّى الله تعالى على سيِّدنَا وشفيعنا وحبيب قلوبنا، مُحَمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين، واللَّعن الدَّائِم على أعدائِهم ومبغضيهم وناكرِي حقِّهم، من الأوَّلين والآخرين، ما بقيت وبقي اللَّيل والنَّهار، إلى قيامِ يوم الدِّين.

قلم وصوت ومحام آل البيت

الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد

إبن السلطان محمد شمس الدين ابوهارون الشريف

الإدريسي الحسني العلوي الهاشمي القرشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى