مقالات

محمود حسن اسماعيل شاعر أبوتيج والمحراث والسواقى والدموع

في العدد الثاني لجريدة أخبار أسيوط عام 1999، نشر الكاتب الصحفي والإعلامي عبدالله تمام رئيس تحرير جريدة اليوم وموقع اليوم الإخباري.. عن محمود حسن إسماعيل شاعر أبوتيج والمحراث والسواقى والدموع والبؤس والأسى والعرى .. أشعل النار في اللغة والشعر والشعراء وذهب.

فتى اسيوطى لفظته أمه للحياة في قيظ ظهيرة يوليو من العام ۱۹۱۰ واستقبلت النخيلة نبأ قدومه كما تستقبل نبأ قدوم أي فتى آخر ولكنها لم تكن تدري أن محمود ابن حسن أبواسماعيل فتى ولا كل الفتيان.. كانت الملاريا التي دأبت على مداهمة النخيلة وأبوتيج وأسيوط كلها كفيلة بأن تلهى الجميع عنه وهو يأخذ مكانًا قصيًا وسط الحقول يعيش في «خصه» المجدول من بؤس الفلاحين – أهله وناسه – والذي تهتز أركانه لأصوات البوم والغربان ويتسرب إليه بكاء الشادوف ونعيق السواقي ونحيب مزامير الرعاة المقطوعة أنفاسهم.. هنا بالتحديد عاش محمود حسن إسماعيل فتى النخيلة الموعود يأكل وينام ويحرث الأرض ويفلحها و…. يدرس…

ومن خصه هذا حصل على البكالوريا – من الخارج – دون أن تعرف عظامه الضعيفة راحة مقاعد أبناء المدارس.. هنا فقط بدأت النخيلة بمركز أبوتيج تنتبه لمحمود بن حسن أبو إسماعيل..هذا الولد الاسمر الأجعد ذو العينين الجاحظتين حصل على البكالوريا وينوي السفر للقاهرة ليدرس في دار العلوم والله وربيت يا حسن يا ابن أبوإسماعيل.. ولكن في القاهرة كانت الصدمة عنيفة على نفس الشاب محمود الذي تربت أحاسيسه ومشاعره على الفطرة والنقاء في كوخه على مشارف النيل يصفى للطبيعة ويغني لها  فتردد أغانيه أما هنا في القاهرة فلا يمر يوم إلا ويستيقظ على نواح أم فلان وقد دخلت في وصلة شجار مع أم علان بسبب الواد  ترتان الذي قذف شباكها بقصد أو بدون قصد..

وتعمق لديه الإحساس بالاغتراب الشديد خاصة عندما صدم بما يدرسه من اشعار وفنون بلاغة أكل عليها الدهر وشرب وأصبحت كلها من وجهة نظره تحصيل حاصل لا تقدم كثيرا أو قليلا في منظومة تطور الشعر العربي..

انطوی محمود على ذاته اكثر وأثر العزلة والتفكر والانطواء بدلا من العودة للنخيلة خائب الرجاء وسماع الناس يقولون حسن بن ابواسماعيل ماعرفش يخلف(!!).

وجد سلوته في كتابة الشعر ولكن على طريقته الخاصة مستمدا صوره واحاسيسه من مخزون فطري لا ينضب لصورة القرية الأسيوطية التي تتشابه مع جميع قرى مصر ولكن النخيلة كان لها خصوصية شديدة وفرت له مخزونا هائلا من الشعر الخام راح يصوغه بطريقة جديدة لم يعرفها شعر العربية من قبل.

ولأنه شاعر ذو إنسانية صافية وشخصية واضحة وتلقائية وذو تكوین نفسی أميل ما يكون للتأمل العميق فقد أتت صوره الشعرية غريبة تماما وتشبيهاته واستعارته بعيدة للغاية تدعو أيضا للتأمل العميق لدى مطالعتها اضافة لهذا كله كان شعره صادما وجريئا لأحاسيس المترفين من الأفندية ومستهلكي الشعر الذين مازالوا متعلقين بجمال التوتة والساقية والترعة و”ما احلاها عيشة الفلاح”، ولا يدرون شيئا عن الفلاح الذي أكلت جسده البلهارسيا أو فتك الرمد الربيعي بعينيه وتقرح جوفه جوعا (!!).

فجأة سنة 1935 وبالتحديد أول يناير صحت القاهرة من نومها على  ديوان شعر يحمل اسم “اغانی الكوخ”، لشاعر مجهول يدعي محمود حسن اسماعيل وكالنار تأكل كل ما في طريقها انتشرت قصائد محمود في المنتديات الادبية والأمسيات الشعرية تثير لغطا وجدلا واسعا بين روادها.. من هذا الشاعر الذي قلب المنضدة على رؤوس الشعراء والنقاد وكل ما هو مألوف في فنون الشعر؟!!.

من هذا الذي لا يرى في حياة الفلاحين سوى البؤس والفقر والجوع والعويل وتجرأ وقال للملك..

وجاس بالكوخ أرضا غرس نبتها ۔ جوع وشكوى وأسقام وعلات

تری العفاة فيها فانین تبصرهم – وفيهم من بني الدنيا علامات مهلهلون على أبدانهم مزق وكأنها لصراخ البؤس رايات.

كان هذا محمود حسن إسماعيل ابن النخيلة مركز أبوتيج الذي جاء ليملأ فراغا حادا ترکه رحيل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ولكن بأفق جديد تماما.. وكانت المفاجأة أن يكون هذا الشاعر مازال بعد في مراحل الدراسة بدار العلوم رغم أن أشعاره تدل على أنه متمرس وصاحب رؤية مكتملة ونسيج شعري متين وصفه البعض بأنه يطاول المتنبي وأبا تمام والبحتري.

من هنا انطلقت عبارة أن محمود حسن إسماعيل ولد شاعرا وعاش عبر طفولته وصباه دموع الفلاح وأحزان الأرض وهي ترزح تحت الرق والاستعباد والظلم اشعلت في قلبه نار الشعر التي لا تخمد وما كاد يغادر أرضه حتى تأججت النار بالحنين لمنبته فانطلق يعبر ويرسم واقعا ظل الكل غافلا عنه ومن هنا ايضا ولأن دیوانه كان رسما حيا لواقعه فقد أطلقوا عليه لقب شاعر الساقية والمحراث والنهر الخالد..

حدث مرة أن أراد محمود حسن إسماعيل أن يكتب قصيدة عن الغراب وتأبى عليه شيطان شعره الذي كان يطلق عليه اسم “الأشيب” فصعد إلى نخلة قريبة منه وظل فارضا على نفسه التعلق برأسها حتى أتاه الهامه وكتب قصيدته وهبط ليقرأها على أصدقائه ولم تكن هذه المرة هي الأولى أو الاخيرة التي يعانده فيها شيطان شعره فقد حدثت له مشكلة بسببه أيضا كادت أن تنتهي بكارثة وذلك عندما دعي لإلقاء قصيدة في ذكرى أبي تمام وغادر القاهرة دون أن يكتب سطرا واحدا وفي يوم الاحتفال ارتدى کامل ملابسه وظل يزرع غرفته بالفندق جيئة وذهابا وقد ساءت حالته النفسية خاصة وأنه لم يكتب حتى استهلالا يعتذر به للناس وكان فيهم نفر كثير من كبار القادة والمسئولين الذين ينتظرون سماع ما سيقول.

وفجأة نظر من شباك الغرفة فإذا هي تطل على قبر أبي تمام هنا فقط هبط عليه شيطانه وراح يملي عليه قصيدته وما إن انتهى منها حتى لحق بدوره في الاحتفال وألقاها كما هي فكانت أروع ما قيل في هذه المناسبة التي تبارى فيها كبار الشعراء العرب..

وتوالت اصدارات وكتابات محمود حسن اسماعيل التي نزحت كلها من معين النخيلة الذي لا ينضب واحتل مكانة سامقة بين شعراء العرب فغنى له عبدالوهاب اغنية النهر الخالد بعد أن أقنعه بعدم حلاوة عيشة الفلاح والتقي به جمال عبدالناصر وكرمه وبعض الزعماء العرب الذين انزلوه مكانة سامية وزار العديد من البلدان العربية والأوروبية يلقي قصائده في منتدياتها وأمسياتها ومؤتمراتها فذاع صيته يقول عنه صديقه يعقوب شيحا: لقد كان شاعرا فريدا في فنه.. ولا أعتقد أن أحدا من شعراء العربية قادر على أن يجاريه في صوره الغريبة أو في موسيقاه الشيطانية الصاخبة السحرية البدائية..

ويقول الناقد د. عبده بدوی: حين نذكر الشاعر محمود حسن اسماعيل لابد أن نذكر تلك الرعشة التي أدخلها على الشعر.. ادخل تركيبة سحرية جديدة في الشعر المحسوس وجسد المجرد وربط بين الأشياء وفي الوقت نفسه قام بعملية حرق وتطهير للغة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى