تقارير و تحقيقات

الطب المصري في الخارج حلقة (٣): “قصة المهجر” بين آفاق الطموح وآلام البقاء

“قصة الهجرة” هي الحلقة الثالثة والأخيرة من ملف “الطب المصري بالخارج”…

قصة يرويها أحد أبطالها في ملخص لمذكرات مهاجر…

مهاجر طوى الأرض بحثًا عن فرصة نجاح…

فكانت بلد المهجر أوروبية تتحدث لغة غير لغته … وفي بيئة غير بيئته … 

بلد لم تكن له وطن لكنها أصبحت موطنًا لقصة نجاحه…

إنه الدكتور “سعد مهدي” – استشاري التخدير والعناية المركزة وعلاج الألم بمستشفى ليمريك الجامعي بأيرلندا

وعن أيرلندا وقصة هجرته إليها، حكى لنا ملخص لدفتر مذكرات مهاجر فقال:

د.سعد مهدي – استشاري التخدير والرعاية بمستشفى ليمريك الجامعي

كنت خريجا لكلية الطب جامعة الاسكندرية عام ١٩٨٩ وحصلت على نيابة بها بدأت عام ١٩٩٢ وانتهت نيابتي عام ١٩٩٥، فاتخذت قراري بالسفر إلى المملكة العربية السعودية في مايو من نفس العام، وبوجودي في المملكة العربية السعودية أيقنت مبكرًا أن الاستمرار في المجال الطبي يحتاج إلى أو استمرار بالتعليم الطبي وإكمال دراساتي العليا، وكنت حاصلاً على درجة الماجستير لذا كان طموحي الحصول على الدكتوراة أو الزمالة، ولتحقيق ذلك انتقلت إلى أيرلندا عام ٢٠٠٠.

وهو قرار بدأت الإعداد له منذ عام ١٩٩٦، واحتاج الأمر إلى أخذ معادلات خاصة بالبلد التي أنوي الانتقال إليه، و لم يكن خيارًا سهلًا فخيارات إكمال الدراسات العليا كانت اثنين: إما العودة إلى مصر لنيل الشهادة وهذا كان القرار الصعب، إذ كنت سأضطر لترك عملي بالمملكة والعودة إلى مصر في ظروف عمل صعبة لأحصل على شهادة لا أدري ما آفعل بها او لمستقبل ليس له معالم واضحة، أو السفر إلى واحدة من بلاد العالم المتقدم التي تفتح أبوابها أمامي وكان الاختيار بين: أمريكا وكندا وأستراليا وإنجلترا وأيرلندا.

وكان امتحان الزمالة الملكية الأيرلندية الخيار الأيسر إذ يعقد مرتين في العام في المملكة العربية السعودية فالتحقت به، واجتزته في فترة وجيزة وبقي أمام الحصول على تدريب عملي في أيرلندا مدته (١٨) شهر، فقبلني المجلس العلمي الطبي في أيرلندا عام ٢٠٠٠ وعليه انتقلت إلى هناك.

أشبعت الهجرة -في ذلك الوقت- طموحي الذي لم يكن للتعيين في وزارة الصحة المصرية أن يستوعبه، فالظروف الصعبة وغير المنصفة لعمل طبيب التخدير كانت قاتلة لأي طموح، فهو تقريبا من يحمل معظم مخاطر أي حالة، فيحضر للجراحة ويرأقب الحالة أثناء الجراحة وهو المسئول عن عمليات الإفاقة ثم المتابعة بعد الجراحة، بينما أجره عن كل جراحة لا يتعدى ١٠٪…،

كذلك يتحمل طبيب التخدير مسئولية أي فشل أو خطأ، فنسمع كثيرا كلمة (الجراحة كانت ناجحة لولا خطأ طبيب التخدير)، وعليه لا يحصل حتى على تقدير لدوره، فنسمع مثلا كلمات في إرثنا مثل: (إنه طبيب تخدير إذا هو لم يحصل على تخصص مهم)، وذلك على الرغم من أن طبيب التخدير يبذل جهد مضني داخل غرف العمليات وخارجها، بل وهناك حالات تحتاج لأكثر من طبيب تخدير في متابعتها، ويكتمل المشهد المؤسف يكون بأن يكون كبش الفداء لكل الحالات التي يمكن أن تحدث لها مشكلات بعد الجراحة، لذا في رؤيتي يجب أن نسرع في إقرار قانون المسئولية الطبية في بلادنا.

د.مهدي في إحدى دوراته التدريبية بجامعة ليمريك

الهجرة في عيون المحيط الاجتماعي:

قرار الهجرة – بالنسبة لي- تأثر بكثير من العوامل المؤثرة أهمها: موافقة ومباركة أهلي فمن البداية وضعت طموحاتي بالورقة والقلم، ولم تقتصر طموحاتي على المادة بل كنت أريد شهادة دولية وخبرة احترافية دولية وأريد أن آصبح من أطباء الصف الأول، وقد كان والدي يؤمن بطموحاتي وقدراتي ويؤمن بأن مستقبلي أمر يخصني، وكان هدفي الأكبر في هذا الوقت هو أن أكون مفيدا للمرضى وأتمكن من خدمتهم، وقد ساعدني على ذلك حصولي على درجة الماجستير قبل السفر، وبمجرد استقراري في المملكة العربية السعودية اكتشفت أن المستشفى التي أعمل بها قائمة على الاستشاريين، فاتضح لي أنني لو بقيت بدرجة أخصائي لن يكون لي مكان في المستقبل، فكان هذا حافزًا لي لإكمال الطريق فسافرت إلى أيرلندا.

وكانت بعد سنة في أجازة طبيعية، وكان لا يزال أمامي ستة شهور أخرى لإتمام أخر امتحانات المعادلة الأيرلندية، ثم كانت الزيارة الثانية بعد عامين وكنت قد اجتزت الامتحان بجدارة، كأول طبيب عربي يجتاز الامتحان من أول مرة، وكان مكمن النجاح في اجتياز المعوقات الكثيرة التي تواجهنا في بلد أجنبي، والتي يأتي أهمها حاجز اللغة حتى على مستوى التعامل مع المرضى وفهم مفردات المريض عند الحديث عن المرض، وعليه حتى مستوى التدريب والممارسة العملية كان يحمل تحديات كبيرة.

لم أكن أهتم كثيرا بأن تصفق لي الأيادي، بقدر ما كنت أهتم وأركز على تطوير نفسي، إذ أنه بالنسبة لطبيب التخدير كل مريض يعد امتحانًا جديدا له…

فوضعت تطلعاتي وأهدافي على ورق، لأتمكن من تقييم خطواتي وأخذت أسرتي معي، فكانت الهجرة قرار لم أندم عليه حتى وإن وجدت به بعض العيوب، فقد حرصت على بقاء جسور الود بيني وبين عائلتي دون انقطاع، وتمكنت من الوصول لقمة الهرم الوظيفي في أيرلندا،إذ أنني الآن استشاري ورئيس قسم التخدير في أحد أكبر المستشفيات الجامعية هناك، وحصلت على شهاداتي المطلوبة وحققت إنجازي العلمي كما ينبغي أن يكون، وعلى المستوى الأسري أشعر وزوجتي بالأستقرار والراحة هناك وكذلك أولادي، وعلى المستوى المادي حققت وضع مادي محمود، كما أتمتع بالعدالة الاجتماعية حيث أنني أعامل نفس معامل الأيرلندي صاحب البلد. فكان قرارًا ناجحًا جدا على كافة المستويات.

بين الوطن والمهجر:

د.مهدي مع بعض أطباء الجالية المصرية بأيرلندا

قضيت في آيرلندا ٢١ عامًا، كانت مكان للعمل والدراسة ونعيش فيه ونربي فيه أولادنا وفيه مدارسنا وجامعاتنا؛ وكانت أهم مميزاته أن فيه خريطة واضحة للمستقبل، لأن البيئة العملية والعلمية والاجتماعية تساعد على ذلك، فعن الحياة العملية داخل المستشفيات: توجد خريطة ثابتة تقول أنه خلال عام سأكون أنهيت دراسات وأبحاث كذا، ويجب أن أحصل على تخصص معينة لأشغل وظيفة معينة، وبمجرد وصولي نهاية السلم الوظيفي هنا أكون استشاري يتعين عليه تعليم الأجيال القادمة …  

ولما كان هذا الأمر غير موجود في مصر، نجد بلدنا تخسر أطباءها في أوج نشاطهم، فالعمر الحقيقي للطبيب حينما يكون في عمر ٣٠-٥٠ عام، وهي الفترة التي يعمل فيها الطبيب بجد وقوة لفترات طويلة، ووسط ظروف العمل القاسية للأطباء في مصر التي يعمل فيها الطبيب في نوبتجية تمتد إلى ٢٤ ساعة في مستشفيات بلا إمكانيات، دون أن يجد أي نوع من التقدير من المجتمع أو الدولة، يجد الطبيب نفسه مضطرًا لأخذ الطريق المفتوح أمامه وهو طريق الهجرة. 

وحتى في حوادث الاعتداء على الأطباء نجد أن مرجعيتها أن الشعب لا يقدر قيمة الطبيب الذي يبذل قصاري جهده لتقديم الخدمة الطبية له، والدولة لا توفر الحماية اللازمة للطبيب والمستشفى، وهو الأمر الذي يدفع الأطباء دفعًا لاختيار الهجرة، فعلى سبيل المثال في حادثة الطبيب الذي ضربه أمين شرطة في أحد المستشفيات، لم يكن من هذا الطبيب إلا الهجرة لألمانيا وهو الآن أحد كبار الاستشاريين في واحدة من كبريات المستشفيات الألمانية، وهذا الطبيب المهاجر لم يكن واحدا وإنما تبعه الكثير من الأطباء الذين أساء إليهم حادث الاعتداء على زميلهم فهاجروا للخارج، وعليه هذا المعتدي لم يعتدي على الطبيب ولكنه اعتدى على مئات وآلاف المرضى الذين يخدمهم هذا الطبيب، وهو ما لم آقابله في أيرلندا إذ أن هناك لا تؤدى الخدمة الطبية بناءً على مهنة المريض باعتباره قاضي أو شرطي أو صحفي، فلن يأخذ شيء زائد بناءً على وظيفته، لأن الجميع سواسية في أخذ حقهم في خدمة طبية مميزة.

كذلك من الملاحظ في مصر نمو حجم المستشفيات الخاصة والاستثمارية بشكل كبير، وهو مؤشر خطر لأن هذا يعني أن العامل البسيط أو رجل الشارع البسيط سيحرم من الحصول على الحد الأدنى من الرعاية الصحية المجانية التي يحتاجها، لأن الخدمة الطبية طغى عليها الجانب الاستثماري. وهنا أناشد الدولة أن تحجم طغيان الاستثمار في القطاع الصحي، وأن تعيد هذا القطاع تحت مظلة الرعاية الحكومية حتى لا تطغى عليه المادة.

د.مهدي في مستشفى ليمريك إبان جائحة كورونا

أما في بلاد المهجر فحالة التضافر كانت في أجلى صورها إبان جائحة كورونا، فمن ناحية الشعب كان هناك التزام صارم بقرارات الدولة من حظر التجوال والإغلاق الكامل، أما من ناحية الدولة فقد وفرت الدعم الكامل لأصحاب المهن التي تأثرت بالحظر، كما وفرت دعم كبير للأطباء، كذلك تضافر رجال الأعمال مع الدولة فوفروا كامل الدعم للأطباء والتمريض في الوقت الذي ظهرت فيه الأهمية الكبيرة للطواقم الطبية، كذلك أعاد المجلس الطبي ومجلس النواب النظر في وضع الأطباء الأجانب بناءً على تضامنهم مع الدولة وما قدموه من عمل خلال فترة الجائحة تم استثنائهم من بعض شروط الالتحاق بالوظائف التدريبية، كذلك استحدثت وزارة حوالي ٤٠٠ وظيفة جديدة لتسريع إجراءات منح الجنسية للمهاجرين والمغتربين وقت الجائحة.

وبصفة عامة ومن خلال تجربتي أرى أيرلندا بلدًا غير جاذبة للأطباء، إذ أن بها ٢٣٣ طبيب مصري من ٢٠ ألف طبيب يمثلون إجمالى عدد الأطباء في أيرلندا حسب إحصاء عام ٢٠١٥، وذلك لعدة أسباب أهمها: أنها بلد صغيرة وفقيرة إذا ما قورنت بباقي بلاد الاتحاد الأوروبي، والمنافسة كبيرة فيها في المجال الطبي، لكن بها نظام طبي محترم وتأمين على الأطباء، كما أن فيها قدر من التقدير المجتمعي العالي للأطباء فمثلا: في وقت الجائحة كان دعم الدولة للأطباء يصل إلى أن رئيس الوزراء كان يعمل معنا بنفسه – كونه طبيب – ليوصل رسالة لجميع الأطباء أن الدولة تدعمهم، كذلك فيها التقدير المادي الذي يحصل فيه الجميع على نفس الراتب، والعدالة الاجتماعية فليس ثمة فارق بين طبيب وآخر في الحصول على الترقيات والوظائف العليا – حتى أن آيرلندا بها ٤٠ دكتور تخدير مصري يشغلوا أعلى الوظائف الطبية يقومون على أعلى مستويات التدريب، فهي بلد قائمة على العلم والعلماء.

الخسائر والتطلعات … الوجة الآخر للعملة

تلك الصورة التي كانت عليها حياتي خلال العشرين عامًا الأخيرة لم تمنع وجود خسائرة كثيرة: أهمها كان وفاة أبي دون أن أكون بجانبه، كذلك بعدي عن وطني الذي تمنيت أن أعيش به وأنجح به، وكنت أتمنى خدمة المريض المصري، فمهما كانت مميزات الغربة فهي بلد وليست وطن، فالوطن هو البلد الأم، ودائما ما أتمنى الخير لبلدي وأطباء بلدي وأتمنى أن أعطي لبلدي شيء فيه خير.

ولن يمنعني الاغتراب ومميزات الهجرة من التطلع لنظام طبي مميز في بلدي، يتم فيه تطوير تظام الدراسات العليا، عبر توحيد الزمالة أو الدكتوراة وتطويرها لتسير بمعيار واحد، فنجعلها مساوية للدكتوراة أو الزمالة في أي بلد عربي آو أجنبي آخر، فلا يضطر الطبيب حين يسافر لامتحان معادلات ليتساوى مع زملاءه الحاصلين على نفس الدرجة من بلاد أخرى، وأن يتم تطوير مستوى تدريب الطبيب المصري ليصل لأعلى مستوى يماثل مستوى التدريب في الدول المتقدمة وينافسه، بحيث تصبح مصر مركز عالمي لتدريب الأطباء. 

عند هذا الحد أنهى الدكتور “سعد مهدي” حديثه عن “قصة المهجر”…، القصة تطلق جرس إنذار عن “مصر الخالية من الأطباء”، وهو ذات ما قاله الدكتور “إيهاب الطاهر” في تعليقه على إحصاء عدد الأطباء الذين اتجهوا للعمل الحر بين عامي ٢٠١٦ و٢٠١٧ فكان ١٠٤٤ لدفعة أطباء ٢٠١٦ وزاد إلى ٢٥٤٩ لدفعة ٢٠١٧م، وذلك عبر منشور له على حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، ونداء إلى الجهات المسئولة بضرورة النظر في تحسين وضع الأطباء قبل أن نستيقظ جميعًا على “مصر بدون أطباءها. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى