تقارير و تحقيقات

بعيون العرب والغرب.. رمضان في مصر غير الدنيا

تقرير – عماد نصير

لا يكاد يختلف اثنان من غير المصريين ممن شاءت أقدارهم أن يعيشو أجواء شهر رمضان في مصر، أن للشهر الكريم عندنا طابعاً ومذاقاً خاصاً، يختلف بشكل كبير عن غيرنا من البلاد الإسلامية والعربية، وذلك بالرغم من التشابه الملحوظ في بعض من طقوسه المشتركة في تلك البلدان، أو على الأغلب أنها نقلت من التراث الشعبي المصري إلى مجتمعات أخرى.

فعلى الرغم من أن هناك طقوساً مصرية خالصة مثل “مدفع الإفطار، والفوانيس، والمسحراتي” حسب العديد من المؤرخين، إلا أن العديد من الدول استوحت تلك الأفكار والطقوس واعتمدها الشعب طقساً أساسياً ودخلت ضمن الأمور التي ارتبط ذكرها بالشهر الفضيل، لكن يبقى لرمضان في مصر طابعاً خاصاً وعبقا مختلفاً عن بقية دول العالم الإسلامي.

المماليك والفاطميين:

يرتبط قدوم شهر رمضان الكريم حتى وقبل استطلاع هلاله بالعديد من العادات والتقاليد المصرية الأصيلة، والتي توارثها المصريون منذ عصر الفاطميين والمماليك، وشهد على ذلك عدد غير قليل من الرحالة والمؤرخين، بدءاً من تعليق الزينة بالبيوت والشوارع العامة والفرعية، مروراً بالفوانيس والمدفع وموائد الرحمن والمسحراتي، حتى الأنشطة التجارية المتعلقة بالمائدة المصرية ومدفع رمضان وغير ذلك الكثير.

ففي عصر الفاطميين كانت التوجيهات تصدر للقضاة وعلماء الدين أن يتفقدو المساجد في مختلف الأقاليم بالقطر المصري، وتدوين حاجة المساجد الكبرى إلى الإصلاح، تهميداً لاستقبال شهر رمضان المبارك، والتي كانت تبدأ بالترميم وتنتهي بتركيب “المسارج” والقناديل والشموع الضخمة وإطلاق البخور، كما اشتهر رمضان في مصر زمن المماليك والفاطميين بانتشار باعة الحلوى بمختلف أنواعها.

رمضان بعيون غربية:

قد يغلب على البعض مظنة أن المسلمون والعرب بالغوا في وصف ترحيب المصريين بشهر رمضان وتصوير تقديرهم له، لكن بعض من الرحالة غير المسلمين الذين عاصرو رمضان في مصر سجلوا ذلك في أرشيف رحلاتهم وصفاً ونقداً مدحاً وقدحاً في بعض الأحيان، فمنهم من انبهر بذلك ومنهم من اشتكى عدم قدرته على النوم بسبب صخب الاحتفالات.

فقد دون الرحالة “دي بريدنباج” وهو أحد أبرز مؤرخي البندقية، أنه حين كان يزور القاهرة يجد صعوبة في النوم بسبب الغناء وصوت الطبول معظم أوقات الليل، سواء في رمضان أو حتى الأيام التي تمهد لاستقباله.

أما الكاتب والمؤرخ الألماني فيليكس فابر، فقد دهش أثناء زيارته لمصر، بكم الأنوار والفوانيس والزينة، ومظاهر البهجة التي تنبعث من كافة شوارع القاهرة، وتعجب من مبالغة المصريون في فرحتهم بالاحتفال بشهر يرتبط بطقس ديني.

استطلاع هلال رمضان:

المستشرق والنحات الإنجليزي إدوارد وليام لين، والذي قدم إلى مصر للاستشفاء فأقام بها بضع سنوات، دوّن عادات المصريين في كتابه الشهير “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم”، ومن بين ما ذكر عن مظاهر الاحتفال بقدوم شهر رمضان، استطلاع الهلال وسلوك العامة في الشارع والاحتفال بشهر رمضان ومظاهر التكافل بين الناس وغير ذلك من الصور الإيجابية، التي حاول من خلالها تقديم صورة للقارئ الغربي، يريه من خلالها ارتباط المصريين بشهر الصيام، لا سيما فرحتهم بثبوت الهلال وبدء الصيام.

ومما أورده “لين” في كتابه قوله: “بعد أن يصل الخبر اليقين لرؤية القمر (الهلال) يطوف الجنود والمحتشدون في أحياء المدينة ويهتفون (يا أتباع أفضل خلق الله! صوموا، صوموا)”.

مدفع الحاجة فاطمة:

ارتبط انطلاق “طلقة” من مدفع بتوقيت الإفطار والسحور، فأصبحت عادة مصرية منذ حوالي 580 سنة، وتحديداً عصر الظاهر “سيف الدين خوشقدم” كما أورد الكثيرون، وبالرغم من مصادفة إطلاق المدفع مع أذان المغرب وإعلان الإفطار، حيث امر الوالي بإطلاق طلقة من المدفع الجديد لتجربته، إلا أن الأهالي فرحوا بذلك ظناً منهم أنه تقليد حديدث اعتمدته الدولة لتنبيه الصائمين ممن لا يسمعون الأذان بانتهاء وقت الصيام، قبل أن تقرر “الحاجة فاطمة” زوجة السلطان إعادة إطلاق المدفع بصفة يومية، ليرتبط اسم المدفع باسمها حتى يومنا هذا، تقديراً من المصريين لتلك اللفتة الطيبة منها.

وسرعان ما انتقلت الفكرة من مصر إلى الشام ثم الجزيرة العربية ومنها إلى مختلف الدول الإسلامية التي استحسنت ذلك التقليد واعتمدته، كإجراء حسن منها يرتبط بشهر رمضان المبارك.

ومهما اختلفت الروايات في أصل وتاريخ مدفع رمضان بين محمد علي باشا الكبير، أو الخديوي عباس الأول، والذي خصص مدفعاً لشهر رمضان يدوي صوته مع الإفطار والإمساك، إلا أن الحديث هنا أنها عادة مصرية بامتياز، بدأت واستمرت في مصر، وتناقلها العالم الإسلامي عنها.

موائد الرحمن:

“من أبرز مظاهر وعادات شهر رمضان في مصر هو ذلك الملمح التكافلي الذي ينتشر في مختلف ربوع مصر مدناً وقرى، وهو “موائد الرحمن”، تلك الشوادر التي تفتح أبوابها أمام المارة، لتقديم الأطعمة والمشروبات والتمور بالمجان، أياً كان القادم إليها، سواء من الميسورين والأغنياء أو الفقراء أو المسافرين، وذلك حيث تقام في الشوارع والطرقات العامة والحدائق أو الأزقة والحواري والمساجد والشوارع العامة، لا يفرق القائمون عليها بين اللون والعرق بل وحتى الدين، بل يتعاملون مع زوار مائدة الرحمن على أنهم “ضيوف الرحمن”.

 ويرجع الكثيرون هذه العادة المتوارثة إلى الخليفة “المعز لدين الله الفاطمي”، حيث قيل أنه نظم مأدبة إفطار كبيرة لإطعام الفقراء، بجوار جامع عمرو بن العاص، ويرى غيرهم أنها تعود إلى زمن مؤسس الدولة الطولونية “أحمد بن طولون”، حيث قيل أنه أقام أول مائدة رحمن في مصر في السنة الرابعة لولايته، ودعا الناس إليها طوال شهر رمضان.

كما ورد أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله كان يصنع يومياً 1100 قدر من مختلف أنواع الأطعمة، وهو أول من أقامها للعامة من رواد الجامع الأزهر ومسجد عمرو بن العاص أو ما كان يعرف بـ”الجامع العتيق”.

كما اشتهر عن السلطان برقوق، وهو أبرز سلاطين المماليك أنه كان رجل بار بالعامة والفقراء ورواد المساجد طوال شهر رمضان المبارك، حتى قيل أنه كان يأمر بذبح 25 بقرة يومياً، تقام بها ولائم الإفطار.

فانوس رمضان:

بقرب حلول شهر رمضان بل وقبله بأيام كثيرة، تبدأ مظاهر الزينة تلاحظ في شوارع مصر بوجهيها القبلي والبحري الريف والحضر، يتبارى المصريون أحياناً في تزيين شوارعهم، بل وينظمون في كثير من الأماكن مسابقات لأفضل زينة في الشارع، وهو أمر بات ملحوظ وتتزايد صوره الجمالية عاماً بعد آخر.

إلا أن أبرز ملامح الزينة على الإطلاق هي “فانوس رمضان”، ولا يُعرف غالباً تاريخ ظهور أول فانوس في مصر، والذي ارتبط بشهر رمضان، إلا أن البعض يُرجع ذلك إلى الدولة الفاطمية أيضاً، وتحديداً عصر المعز لدين الله الفاطمي، حيث خرج الأهالي ليلاً للقائه والترحيب به حاملين فوانيس لإنارة الطريق ليلاً ، ليستحسن ذلك المشهد منهم، لتصبح بعدها عادة رمضانية.

ويرى البعض أن الدولة كانت توعز لأئمة المساجد بتعليق الفوانيس ووضع الشموع بداخلها، وأنه في عهد “الحاكم بأمر الله الفاطمي”، سُمح للنساء بالخروج والتجول ليلاً، شريطة أن يصحبها من يحمل فانوساً ينير لها الطريق، وينبه العامة بالطريق بمرور سيدة، وما لبثت الفكرة أن انتشرت في العديد من دول العالم الإسلامي، وإن كانت غالبية الصناعة خاصة “النحاسية” منها تأتي من مصر، ويصبح الفانوس مرتبط ارتباطاً لصيقاً بشهر رمضان، ولا تكاد مظاهر الاحتفال عندهم تكتمل بدونه.

المسحراتي:

كغيرها من المهن التي اختلف الكثيرون في تاريخها وموطن نشأتها، إلا أن الواقع يقول بأنها نشأت مصرية وانتشرت في أقطار العرب وهي مصرية أيضاً، حتى وإن اختلف شكلها المعاصر عن ما بدأت عليه.

و(المسحراتي) هو ذلك الرجل الذي يتولى تنبيه الناس لوقت السحور استعدادً لصيام يوم جديد من رمضان، إما بالنداء أو بالطبل أو بالغناء أو بما يحلو له ويستحسنه الناس من أدوات، وفي الغالب يكون واحد من المحتاجين الذين يسعون لأخذ مقابل “عيدية” في أواخر شهر رمضان أو بعد العيد.

ويقدم العالم الفرنسي “جيوم أندريه فيوتو” وصفاً بليغاً لمهنة المسحراتي والعاملين بها، ضمن دراسات “وصف مصر” حيث يقول: “هم نفر لا يسمع الناس غناءهم إلا خلال شهر رمضان، ويسمون بالمسحّرين، ويوصف بهذا الاسم أولئك الذين يعلنون كل يوم طيلة شهر رمضان، عن اللحظة التي يوشك فيها نور النهار الجديد أن ينبلج” ويضيف: لكل منطقة “مسحرها” الذي يحمل في يد طبلة وفي الأخرى عصا يضربها بها وبصبحبته من يحمل له قنديل للإنارة ويبدأ في الغناء والنداء والتنبيه بقرب بزوغ يوم جديد.

رمضان بعيون مسيحية:

بخلاف معظم الأمم على مستوى العالم، يشترك المصريون مسلمين ومسيحيين في جينات واحدة بنسبة فاقت 97%، ما يؤكد أنهم جميعاً ينتمون إلى جد مصري واحد، وينحدرون من تاريخ وعرق واحد، ما يجعل منهم نسيج واحد حتى ولو اختلفت دياناتهم، وهذا الأمر تتضح جماليته في شهر رمضان على وجه الخصوص، فالمصريين المسيحيين يراعون في سلوكهم اليومي على مدار شهر رمضان حرمة الشهر الكريم وقدسيته، فلا يجاهرون بالأكل أو الشرب في نهار رمضان احتراماً منهم لشركاء الوطن، بل يشاركون في الأحياء الشعبية والقرى في زينة رمضان، وكل عام تطالعنا وسائل التواصل الاجتماعي بنماذج مبهرة من شباب مسيحيين، يشاركون إخوانهم المسلمين في تعليق الزينة وتوزيع المشروبات على المارة بل والقيام على خدمة الصائمين في موائد الرحمن، وصادف هذا العام أن يأتى الصوم الكبير فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، مع فترة صوم شهر رمضان المبارك، ما يجعله شهراً مميزاً عن السنوات السابقة، وتبرز فيه أكثر وأكثر صور التكافل والتكاتف المجتمعي، ليتأكد بحق أن رمضان في مصر غير الدنيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى