مقالات

مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه من فتى مكة الملل واعطرها إلى أول سفير في الإسلام ولقب بالمقرئ

قلم وصوت ومحام آل البيت
الكاتب المصري والمؤرخ الإسلامي
الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد

سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه هو أبو عبد الله مصعب بن عمير العبدري (المتوفى سنة 3 هـ) صحابي بدري من السابقين إلى الإسلام ، ومبعوث النبي محمد للدعوة إلى الإسلام في يثرب بعد بيعة العقبة الأولى، وحامل لواء المهاجرين في غزوتي بدر وأحد.

كان سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه شاباً غنياً مترفا منعما حسن الوجه لطيف المعاملة والمعاشرة، فهو ممن وضعوا البنى الأساسية لمجد الإسلام وعزته ومكانته ورفعته في مدينة رسول الله بين الأنصار أوسهم وخزرجهم، ولا أقصد بكلامي عن هذه الشخصية الكريمة مجرد التفاخر والتواكل والاعتماد في الحاضر على الأحساب والأمجاد الأولى ، فهذا لا يفيدنا شيئاً في مجال البناء والنهضة بشبابنا الضائع وأمتنا التائهة ، إنما أقصد بحديثي استلهام روح البطولات الرائدة لدى سلفنا الصالح ليصبح الحديث عنهم عنواناً طيباً صالحاً لبعث الحياة فيهم من جديد ، وتجديد الأمل ، واستعذاب المنى وتفجير الطاقات والقوى، وإحداث التغيرات الفورية في جيل الإسلام وأمة الحاضر للاتجاه نحو الأفضل والعمل من أجل غد مشرق ومستقبل بإسم مليء بالأمجاد ، لا مجال فيه لمتخاذل أو مستضعف أو متردد أو مبتدع مارق ، فليس الكلام الشيق المفصل عن حياة أي صحابي مجرد قصة أو ترجمة عابرة للتسلية وشغل الوقت كأغلب قصص وثقافات السوق الرائجة ، وإنما لتبيين موطن العبرة وموضع العظة ومعرفة طريق الأمل والنور. هؤلاء الأخيار نشرح أحوالهم وأخلاقهم ليقتدي بهم السالك : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90]

أحد السابقين إلى الإسلام ، أسلم قديما وسيدنا محمد النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم ، وكان محببا إلى والديه يغدقان عليه بما يشاء من أسباب الراحة والترف والنعيم ؛ ولهذا كان من أنعم فتيان مكة ، وكان فتى مكة شباباً وجمالاً وتيها، وكانت أمه غنية كثيرة المال ، تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقّه، وكان أعطر أهل مكة ، وكان رسول الله يذكره ويقول : ما رأيت بمكة أحسن لِمة ولا أرق حُلّة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير ، ولكن هل منع مصعب ما كان فيه من الراحة والنعمة أن لا يدخل في الإسلام بعد أن سمع به ؟! كلا لم يحدث شيء من هذا ، بل لما سمع بالإسلام دخل فيه مباشرة ، وكان يعلم أنه سيسلب النعيم الذي هو فيه وسوف يتبدل حاله من العز إلى الذل ، ومن السعة إلى الضيق ، ومن النعيم إلى الجحيم ، ومن الراحة إلى التعب ، ومن الغنى إلى الفقر ، ولكنه آثر الآخرة على الدنيا ، نعم لم يفعل كما يفعل المترفون اليوم من عدائهم للمتمسكين بهذا الدين والاستهزاء بهم ، ولم يقل : إن هذا الدين كبت وجرح للمشاعر، ولم يجمع حوله الشباب الضائع المائع المتكسر البعيد عن الرجولة لينشغل بمغازلة النساء ، ولم يقل : أنا شاب الآن ، عندما أكبر أتوب وأرجع إلى الله، كلا لم يفعل ، ولم يقل شيئاً من ذلك الهراء كما يفعله شباب اليوم، بل دخل في دين الله متحدياً بذلك قريشا بعتادها وقوتها لما كان يرى من تعذيبهم للمستضعفين في رمضاء مكة.

ولقد كان مصعب بن عمير – رضي الله عنه – يعيش بين أفراد قبيلته على دينهم وعلى ما كان عليه آباؤه وأجداده , فتلك الجاهلية العمياء قادتهم إلى عبادة الأصنام وشرب الخمور , وحضور مجالس المعازف والغناء وغيرها من العبادات الباطلة , مع ما يصحب ذلك من سوء في الأخلاق , ودناءة في النفوس , وخرافة في الأفكار التي كانت منتشرة في المجتمع الجاهلي. ولكن مصعباً – رضي الله عنه – بعقله البصير ورؤيته الثاقبة استطاع أن يميز بين ما هو عليه وما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – من الدين الحق الذي رأى فيه من التعاليم الإسلامية السمحة التي توافق العقل ولا تعارض الفطرة الإنسانية.

فعزم – رضي الله عنه – بنفسه من غير أن يدعوه أحد على الدخول في هذا الدين , فدخل على النبي – صلى الله عليه وسلم – في دار الأرقم بن أبي الأرقم – رضي الله عنه – فأسلم وصدّق به وخرج فكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه , فكان يختلف إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سراً وقد كتم إسلامه – رضي الله عنه – كغيره من الصحابة – رضي الله عنهم – , ولأنه يعرف أنه أتى بدين يخالف دين قومه فسوف يلاقي من العذاب والأذى ما لاقاه الصحابة – رضي الله عنهم – , وكان اختلافه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في دار الأرقم ليختفي عن أنظار المترصدين من كفار قريش , ويشارك بقية الصحابة – رضي الله عنهم – في عبادة الله وحده , ويتلقى العلم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – , فأخذ ينهل من معين الوحيين حتى أصبح من أعلم الصحابة – رضي الله عنهم – في ذلك الوقت ؛ لذلك أرسله النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة مع من أسلم من الأنصار ليقرأ عليهم القرآن ويعلمهم أمور دينهم , وذلك في هجرته الأولى إلى المدينة.

ومما كان ظاهراً في مكة ، الترصد لأتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – لذلك بصر عثمان بن طلحة بمصعب بن عمير – رضي الله عنه – وهو يصلي فأخبر أمه وقومه لتبدأ مرحلة جديدة من العذاب والنكال , فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوسا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى . وقد خرجت أمه حين علمت بإسلامه ناشرةً شعرها , وقالت: لا ألبس خِماراً، ولا أستظلُّ، ولا أدَّهنُ ولا آكلُ طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى تدع ما أنت عليه، فقال أخوه أبو عزيز بن عمير: يا أمه دعيني وإياه فإنه غلام عاف ولو أصابه بعض الجوع لترك ما هو عليه ثم أخذه وحبسه .

ولقد مر بمصعب – رضي الله عنه وأرضاه- ألوان من العذاب كغيره من الصحابة – رضي الله عنهم – بل أشد؛ وذلك لفارق ما كان عليه في الجاهلية وما وقع عليه بعد إسلامه , فالأم التي كان لا يشغل بالها إلا ابنها من فرط حبها له ، أصبحت معولاً هداماً لذلك الجسم المنعم ، فلا تتردد في تعذيبه ، وحرمانه مما كان عليه سابقاً , بل كانت تعين قومه عليه ، حتى ” أصابه من الشدة ما غَير لونه وأذهب لحمه، ونهكت جسمه حتى كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينظر إليه، وعليه فروة قد رفعها، فيبكي لما كان يعرف من نعمته، وحلفت أمه حين أسلم وهاجر ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بظل حتى يرجع إليها ، فكانت تقف للشمس حتى تسقط مغشياً عليها ، وكان بنوها يحشون فاهها بشجار، وهو عود فيصبون فيه الحساء لئلا تموت ” .

ولذا تغيرت حياة مصعب بن عمير – رضي الله عنه – وتبدلت أحواله في ملبسه ومأكله وشأنه كله , فقد قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه إنا لجلوس مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير – رضي الله عنه -، وما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بكى للذي كان فيه من النعمة، والذي هو فيه اليوم، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة، ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟» قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذ خير منا اليوم، نتفرغ للعبادة ونكفى المؤنة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم «أنتم اليوم خير منكم يومئذ» .

وعن عروة بن الزبير عن أبيه – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالساً بقُباء ومعه نفر، فقام مصعب بن عمير – رضي الله عنه – عليه بردة ما تكاد تواريه، ونكَس القوم، فجاء فسلم , فردوا عليه، فقال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – خيراً وأثنى عليه، ثم قال: «لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله , ثم خرج من ذلك عليه , حتى ” أصابه من الشدة ما غَيَّر لونه وأذهب لحمه، ونهكت جسمه حتى كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينظر إليه، وعليه فروة قد رفعها، فيبكي لما كان يعرف من نعمته، وحلفت أمه حين أسلم وهاجر ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف للشمس حتى تسقط مغشيا عليها، وكان بنوها يحشون فاهها بشجار، وهو عود , فيصبون فيه الحساء لئلا تموت ” .

ولذا تغيرت حياة مصعب بن عمير – رضي الله عنه – وتبدلت أحواله في ملبسه ومأكله وشأنه كله , فقد قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: إنا لجلوس مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المسجد إذ طلع علينا مصعب بن عمير – رضي الله عنه -، وما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بكى للذي كان فيه من النعمة، والذي هو فيه اليوم، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة، ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟» قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذ خير منا اليوم، نتفرغ للعبادة ونكفى المؤنة، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أنتم اليوم خير منكم يومئذ» .

وعن عروة بن الزبير عن أبيه – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالساً بقُباء ومعه نفر، فقام مصعب بن عمير – رضي الله عنه – عليه بردة ما تكاد تواريه، ونكَس القوم، فجاء فسلم , فردوا عليه، فقال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – خيراً وأثنى عليه، ثم قال: «لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله , ثم خرج من ذلك وأما في حصار الشعب فقد بلغ الجهد منه – رضي الله عنه – مبلغه , فلم يعد يقدر على المشي مع ما أصاب جسده من ضعف بعد ما كان مرفهاً مدللاً فقد قال سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه -: كان مصعب بن عمير أترف غلام بمكة بين أبويه، فلما أصابه ما أصابنا لم يقو على ذلك، ولقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته يتقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القِسِيَّ ، ثم نحمله على عواتقنا .

ومنه يتبين مدى الابتلاء الذي تعرض له مصعب بن عمير – رضي الله عنه – بعد إسلامه ويتمثل فيما يأتي:

١ – الأذى المادي: إذ قُطعت عنه جميع الموارد المالية التي كان يحصل عليها لا سيما من قبل أمه , حتى أصبح لا يجد ما يلبس إلا فروة لا تكاد تواريه.

٢ – الأذى الجسدي: فقد ذبل جسمه وتغيّر لونه وأصابه من الجوع ما لا يستطيع الوقوف معه.

٣ – الأذى النفسي: إذ كان يرى أمه وهي تنشر شعرها وتخرج ويراها وهي تقف في الشمس نكاية به حتى يرجع عن دينه.

مما يبين بجلاء نجاح التربية النبوية في غرس المبادئ والثبات عليها في نفوس الصحابة – رضي الله عنهم – , وهو ما نحتاجه اليوم في تربيتنا للأجيال على مبادئ الكتاب والسنة والصبر على ما يواجهونه من مصاعب في سبيل ذلك.

أسلم سيدنا مصعب رضي الله عنه وأرضاه، فعلمت به أمه، وكانت تحبه حبا شديدا ، فحاولت أن تثنيه عن الإسلام ولسان حالها ومقالها : لا تتشدد يا بني ، ماذا تريد من هذا الدين؟! أتريد أن تمنع نفسك من الغناء ومن النساء ومن الشهوات؟! إن الدين يبعد عنها ويمنعك منها ، وأنت تعلم أن الحياة لا تصفو إلا بهذه الأمور، ولكن مصعبا يعلم أن ما حرمه الله عليه في الدنيا سوف يجده عند الله في الجنة، أما الغناء فسوف يسمع الحور العين يغنين له في الجنة، أما النساء ففي الجنة ما يروي عطش الظمآن ، ويطفئ سعار شهوة اللهفان من حور عين ، لو اطلعت إحداهن على أهل الدنيا لأضاءت لها الأرض ، ولافتتن أهل الدنيا بها ، ولخمارها خير من الدنيا وما فيها، وأما الخمر ففي الجنة ، فهو من خمر لذة للشاربين لا تزيل العقل ولا تضعف البدن لذا لم يكن ليس هناك أي تنازل عند مصعب أمام والدته، وليس لديه خيار آخر غير الإسلام ، فضيقت عليه ومنعته من كل نعيم كان فيه ، ووصل الحال إلى سجنه ، وهو مع هذا كله لم يزدَاد إلا ثباتاً ورسوخا ، ولسان حاله : ماض وأعرف ما دربي وما هدفي ، فلن أترك ديني مهما حل بي من ضيق وشدة.

أسلم ابن عمير سراً في دار الأرقم ؛ خوفاً من قومه وأمه خناس بنت مالك بن المضرب العامرية، التي كانت تتمتع بقوة شخصية فذة فخشيها مصعب ، وقرر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمراً، ولما علمت والدته بذلك حبسته أملاً في رده عن دينه، لكنّها واجهت إصراراً كبيراً منه على الإيمان، فقرّرت إخراجه من بيتها وحرمانه من المال.

ولقد عانى معاناة شديدة وهو يعذب، والسبب في ذلك أنه عاش حياة الرفاهية، تصوروا عندما تغير به الحال وهو الشاب الناعم الطري الذي نشأ في أحضان النعمة والترف لم يثنه شيء من ذلك عن دينه؛ يقول عنه سعد بن أبي وقاص: “وأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا من شطف العيش، لم يقو على ذلك ، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية ، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي ، فنعرض له القسيّ ثم نحمله على عواتقنا”.ومع هذا الألم صبر وصابر محتسبا الأجر عند الله سبحانه، علم هذا الصحابي الجليل أن الحياة فانية ، وأنها دار اختبار تحتاج إلى مجاهدة ومصابرة، ولنجتهد حتى ينجح الواحد منا في الدار الآخرة حيث يقول: (هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) [الحاقة:19] يفرح ويفتخر بشهادة الله له بالفوز في دار النعيم المقيم والخلود الأبدي، وما قيمة شهادات الدنيا أمام الشهادة الأخروية.

فعن ليلى بنت أبي حثمة -رضي الله عنها- , قالت: لما اجتمعوا على الخروج جاءنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: «إن مصعب بن عمير قد حبسته أمه , وهو يريد الخروج الليلة فإذا رقدوا» , قال عامر بن ربيعة: فنحن ننتظره , ولا نغلق بابا دونه , فلما هدأت الرِّجْلُ جاءنا مصعب بن عمير فبات عندنا , وظل يومه حتى إذا كان الليل خرج متسللا ووعدناه فلحقه فيه , وأدركناه فاصطحبناه قال: وهم يمشون على أقدامهم , وأنا على بعير لنا , وكان مصعب بن عمير رقيق البَشَرِ ليس بصاحب رِجْلِهِ , ولقد رأيت رجليه تقطران دما من الرقة , فرأيت عامرا خلع حذاءه فأعطاه حتى انتهينا إلى السفينة فنجد سفينة قد حملت ذُرَةً وفرَّغت ما فيها جاءت من مَوْرٍ فتكارينا إلى مَوْرٍ , ثم تكارينا من مَوْرٍ إلى الحبشة , ولقد كنت أرى عامر بن ربيعة يَرِقُّ على مصعب بن عمير رِقَّةً ما يرقُّها على ولده وما معه دينار ولا درهم , وكان معنا خمسة عشر دينارا

ولما اشتد أذى المشركين بمصعب وإخوته من صحابة رسول الله وضاقت بهم مكة ذرعا أذن لهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة، وهي الهجرة الأولى ، وقال لهم: “إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم عنده أحد”، فهاجر مصعب الهجرة الأولى إلى الحبشة مع من هاجر، وكان عددهم أثني عشر رجلاً وأربع نسوة، وأمروا عليهم عثمان بن مظعون.

ولكن مصعب لم يستمر طويلاً في الحبشة؛ إذ رجع بعد هجرته بعدة أشهر عندما أشيع في الحبشة أن قريشا قد أسلمت ، وكان الأمر غير ذلك.

وتمرّ الأيام العصيبة على المسلمين في مكة ، وتأتي في موسم الحج طلائع من أهل يثرب سنة إحدى عشرة من النبوة وأسلم منهم ستة نفر ، وواعدوا رسول الله إبلاغ رسالته إلى قومهم ، وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلاً، إجتمع هؤلاء مع النبي عند العقبة بمنى ، فبايعوه بيعة العقبة الأولى ، وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام ، ليعلم المسلمين هناك شرائع الإسلام ، ويفقههم في الدين ، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك ، واختار لهذه المهمة الشاقة شاباً من شباب الإسلام من السابقين الأولين ، ألا وهو مصعب بن عمير -رضي الله عنه وأرضاه

قال البراء بن عازب : أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، فهو أول مهاجر إلى المدينة المنورة.

كان – رضي الله عنه – أول من قدم على الأنصار في المدينة , يقول البراء – رضي الله عنه -: «أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار بن ياسر، وبلال – رضي الله عنهم -» وفي رواية أخرى عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: «أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم , وكانا يقرئان الناس …»

فهو أول من هاجر إلى المدينة – رضي الله عنه – للإقامة بها ولتعليم من أسلم من أهلها بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم فله الأوّليّة في الهجرة إلى المدينة من هذه الجهة

وعن الأعمش، قال: سمعت شقيق بن سلمة، قال: حدثنا خباب، قال: «هاجرنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نبتغي وجه الله، ووجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير …» فقد هاجروا بإذن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأمره والمراد بالمعية الاشتراك في حكم الهجرة، إذ لم يكن معه – صلى الله عليه وسلم – إلا أبو بكر وعامر بن فهيرة .

وعن أبي مسعود الأنصاري – رضي الله عنه – قال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها أول يوم جمعة قبل أن يقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فصلى بهم .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” أذن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجمعة قبل أن يهاجر , ولم يستطع أن يجمع بمكة , فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور , فاجمعوا نساءكم وأبناءكم , فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة , فتقربوا إلى الله بركعتين , قال فهو أول من جمع حتى قدم النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة , فجمع عند الزوال من الظهر , وأظهر ذلك ” وكان ذلك في دار سعد بن خيثمة , وهم اثنا عشر رجلاً , وما ذبح لهم يومئذٍ إلا شاة

لما نزل مصعب بن عمير على أسعد بن زرارة رضي الله عنهما , بدأ مباشرة بتعليم أهل المدينة مبادئ الإسلام وقد ظهرت النتائج مبهرة في وقت يسير , وذلك بعد توفيق الله -جل وعلا- يعود إلى أمور تميز بها مصعب – رضي الله عنه – منها : ١ – العلم الغزير الذي كان يحمله مصعب – رضي الله عنه ٢ – قوة الحجة وبلاغة العرض ٣ – السكينة والوقار وعدم التسرع والطيش ٤- معرفة الفوارق الفردية بين المدعوين ومخاطبة كل واحد بما يليق به ٥ – الاستدلال بالآيات القرآنية وأثره الكبير في نفوس الناس ، وهذا ما ينبغي أن تربى عليه الأجيال , وتقام له الدورات العلميه لاكتساب مثل هذه المواصفات التي تؤتي ثمارها يانعة -بإذن الله تعالى

ومما يبين هذا ما رواه ابن إسحاق إذ قال: حدّثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أسعد بن زرارة – رضي الله عنه – خرج بمصعب بن عمير – رضي الله عنه -، يريد به دار بني عبد الأشهل , ودار بني ظفر ، وكان سعد بن معاذ سيّد الأوس ابن خالة أسعد بن زرارة رضي الله عنهما، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا فيه، واجتمع إليهما رجال ممّن أسلم، وسعد بن معاذ وأُسيد بن حضير رضي الله عنهما يومئذ سيّدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير رضي الله عنهما: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة منّي حيث قد علمت كفيتك ذلك، فهو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما. قال: فأخذ أسيد بن حضير – رضي الله عنه – حربته، ثم أقبل إليهما. فلما رآه أسعد بن زرارة – رضي الله عنه – قال لمصعب بن عمير – رضي الله عنه -: هذا سيّد قومه فاصدق الله فيه, قال مصعب – رضي الله عنه -: إن يجلس أكلّمه. قال: فوقف عليهما متشتّما، قال: ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة, فقال له مصعب – رضي الله عنه -: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته , وإن كرهته كفّ عنك ما تكره , فقال: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب – رضي الله عنه – بالإسلام وقرأ عليه القرآن, فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهّله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطّهّر وتطهّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق , ثم تصلّي.

فقام فاغتسل وطهّر ثوبيه وتشهّد بشهادة الحق، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتّبعكما لم يتخلّف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن: سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد – رضي الله عنه – وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ – رضي الله عنه – مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف على النادي قال له سعد – رضي الله عنه -: ما فعلت؟ قال: كلّمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا , وقد نهيتهما , فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدّثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك. قال: فقام سعد – رضي الله عنه – مغضبا مبادرا تخوّفا للذي ذكر له من أمر بني حارثة. فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً. ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنّين عرف سعد – رضي الله عنه – أن أسيداً – رضي الله عنه – إنما أراد أن يسمع منهما. فوقف عليهما متشتّما، ثم قال لأسعد بن زرارة – رضي الله عنه -: يا أبا أمامة أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا منّي، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير رضي الله عنهما: أي مصعب: جاءك والله سيّد مَن وراءه من قومه , إن يتبعك لا يتخلّف عنك منهم اثنان , قال: فقال له مصعب – رضي الله عنه -: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره , قال سعد – رضي الله عنه -: أنصفت , ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام , وقرأ عليه القرآن , قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطّهّر وتطهّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلّي ركعتين. ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير – رضي الله عنه -، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم , فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيّدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة , قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله , قال: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة، حاشا الأصيرم , وهو عمرو بن ثابت بن وقش فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد , ولم يسجد لله سجدة، وأخبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه من أهل الجنة , قال ابن إسحاق: ورجع سعد ومصعب رضي الله عنهما إلى منزل أسعد بن زرارة – رضي الله عنه -، فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ومسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف … “

وفي رواية بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الأنصار مصعب بن عمير – رضي الله عنه – أخا بني عبد الدار , فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة – رضي الله عنه – , فجعل يدعو الناس ويفشو الإسلام ويكثر أهله , وهم في ذلك مستخفون بدعائهم , ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير رضي الله عنهما حتى أتيا بئر مري أو قريبا منها, فجلسوا هنالك وبعثوا إلى رهط من أهل الأرض فأتوهم مستخفين , فبينما مصعب بن عمير – رضي الله عنه – يحدثهم ويقص عليهم القرآن , أُخبر بهم سعد بن معاذ – رضي الله عنه – فأتاهم في الأرمة ومعه الرمح حتى وقف عليه , فقال: علام يأتينا في دورنا بهذا الوحيد الفريد الطريح الغريب , يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم , لا أراكما بعد هذا بشيء من جوارنا , فرجعوا , ثم إنهم عادوا الثانية ببئر مري أو قريبا منها فأُخبر بهم سعد بن معاذ – رضي الله عنه – الثانية فواعدهم بوعيد دون الوعيد الأول فلما رأى أسعد – رضي الله عنه – منه لينا قال يا ابن خالة اسمع من قوله فإن سمعت منه منكرا فاردده يا هذا منه , وإن سمعت خيرا فأجب الله , فقال: ماذا يقول فقرأ عليهم مصعب بن عمير – رضي الله عنه -: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فقال سعد – رضي الله عنه -: وما أسمع إلا ما أعرف فرجع وقد هداه الله تعالى , ولم يظهر أمر الإسلام حتى رجع.

فرجع إلى قومه فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه , وقال فيه من شك من صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى فليأتنا بأهدى منه نأخذ به , فوالله لقد جاء أمر لَتُحَزَّنَّ فيه الرقاب فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد – رضي الله عنه – ودعائه إلا من لا يذكر فكانت أول دور من دور الأنصار أسلمت بأسرها , ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير – رضي الله عنه – واشتدوا على أسعد بن زرارة – رضي الله عنه – , فانتقل مصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ رضي الله عنهما فلم يزل يدعو ويهدي الله على يديه , حتى قَلَّ دارٌ من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة وأسلم أشرافهم وأسلم عمرو بن الجموح – رضي الله عنه – , وكسرت أصنامهم فكان المسلمون أعز أهلها وصلح أمرهم , ورجع مصعب بن عمير – رضي الله عنه – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان يدعى المقرئ وهو أول من سُمي بذلك – رضي الله عنه –

كان سيدنا مصعب رضي الله عنه وأرضاه يقدر المسؤولية التي أنيطت به ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامه خلال سنة حتى يوافي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم القادم ومعه فلول الأوس والخزرج لكي تبايعه على نصرة الإسلام ، فعليه إذًا أن يجتهد في الدعوة ، وأن لا يهنأ بطعام ولا يغمض له جفن حتى يدخل الناس في دين الله أفواجاً، نزل في المدينة عند رجل من أوائل من أسلم من الأنصار ويسمى أسعد بن زرارة ، ولعلنا لا نجد لهذا الصحابي ذكرا كثيرًا في كتب السيرة، والسبب في ذلك أنه توفي بعد هجرة الرسول بقليل ، وأخذ مصعب وأسعد بن زرارة -رضي الله عنهما- يبثان الإسلام في أهل يثرب بجدّ وحماس حتى صار يدعى مصعبا بالقاري والمقري.

ولقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير أنه خير سفير للإسلام اعتمده النبي لدى أهل يثرب، فقد قام بمهمته خير قيام؛ إذ استطاع بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيراً من أهل يثرب على الإسلام ؛ حتى إن قبيلة من أكبر قبائل يثرب -وهي قبيلة بني عبد الأشهل- قد أسلمت جميعها على يده بقيادة رئيسها سعد بن معاذ رضي الله عنه

يمكن القول بأن سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه اشتهر قبل الإسلام بجماله وارتدائه أفضل الملابس وأغلاها وتعطره بأجمل العطور ، كما عُرِف بـ”أعطر أهل مكة”، وكان من زينة شباب قريش. كما أطلق عليه أيضاً”سفير الإسلام” لقب حظي به الصحابي الجليل مصعب بن عمير، أحد السابقين إلى الإسلام والمثابرين لنشره بين الناس، وأُطلق عليه أيضاً لقب ” المقرِئ “، لتعليمه سكان المدينة المنورة قراءة القرآن الكريم .

أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات في حياته وبعد وفاته، ومن ثنائه عليه:

لما رآه النبي مقبلًا وعليه إِهاب كبش قال : «انظروا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ ، لَقَدْ رَأَيتهُ بَيْنَ أَبَوينِ يغدوانهُ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَدَعَاهُ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا تَرَونَ».

بعدما انتهت غزوة بدر وانتصر فيها المسلمون انتصارا عظيماً , وقُتل من صناديد الكفر من قُتل بدأت المجابهة الحقيقية مع كفار قريش فجاءت غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة فخرجت قريش بجيوشها ونسائها , وكان منهن خناس بنت مالك أم مصعب – رضي الله عنه – ومعها ابنها أبو عزيز بن عمير ثم خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – بأصحابه – رضي الله عنهم – بعد ما أخذ برأيهم في الخروج إلى كفار قريش ومعهم بعض النسوة كان منهن حمنة بنت جحش -رضي الله عنها- زوجة مصعب – رضي الله عنه – فقد كانت تسقي العطشى وتداوي الجرحى .

وعندما وصل النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أرض المعركة دفع اللواء إلى مصعب بن عمير – رضي الله عنه – كما كان معه يوم بدرٍ ” ولم يختلف أهل السير أن راية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم بدر ويوم أحد كانت بيد مصعب بن عمير – رضي الله عنه – ” وذلك عندما جعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمشي على رجليه يسوي تلك الصفوف، ويُبَوّئُ أصحابه للقتال يقول: تقدم يا فلان ! وتأخر يا فلان! حتى إنه ليرى منكب الرجل خارجاً فيُؤخّره،
وفي غزوة أحد ، حمل سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه لواء المسلمين، وتقدم به أثناء الغزوة، وأثناء المعركة هجم ابن خلف على الرسول صلى الله عليه وسلم ليقتله، لكن مصعب بن عمير استقبل الضربة عن الرسول ليفديه، وقاتل في أرض المعركة وهو يحمل لوائه حتى ضربه قميئة الليثي ليسقط شهيداً.فهو يقوّمهم كأنما يقوم بهم القِدَاحَ، حتى إذا استوت الصفوف سأل: من يحمل لواء المشركين؟ قيل: بنو عبد الدار. قال: نحن أحق بالوفاء منهم , أين مصعب بن عمير؟ قال: ها أنا ذا! قال: خذ اللواء , فأخذه مصعب بن عمير – رضي الله عنه -، فتقدم به بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – . ثم قاتل وأبلى بلاءً حسناً – رضي الله عنه – لإعلاء كلمة الله والدفاع عن دينه وعن رسوله – صلى الله عليه وسلم – , فعن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: أقبل أُبَيُّ بن خلف يوم أحد إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يريده، فاعترض رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فخلوا سبيله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار ورأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ترقوة أُبَيٍّ من فُرجةٍ بين سابغة الدرع والبيضة

فطعنه بحربته فسقط أُبيّ عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فكسر ضلعا من أضلاعه، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور، فقالوا له: ما أعجزك؟ إنما هو خدش! فذكر لهم قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «بل أنا أقتل أُبَيًّا» ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين. فمات أُبَي إلى النار، فسحقا لأصحاب السعير قبل أن يقدم مكة فأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}

وما زال مصعب بن عمير – رضي الله عنه – يقاتل دون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومعه لواؤه حتى قُتل، فكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي، وهو يظن أنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فعن محمد بن شرحبيل قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد , فلما جال المسلمون ثبت به مصعب – رضي الله عنه – , فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضرب يده اليمنى فقطعها , ومصعب يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وأخذ اللواء بيده اليسرى , وَحَنا عليه فضربها فقطعها , فَحَنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره , وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} , ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندق الرمح ووقع مصعب – رضي الله عنه – , وسقط اللواء

وقد قال ابن سعد وقال عبد الله بن الفضل: قتل مصعب , وأخذ اللواء مَلَك في صورته فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول له في آخر النهار: تقدم يا مصعب , فالتفت إليه الملك , وقال: لست بمصعب فعرف النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه مَلَك أُيِّد به

فرجع ابن قميئة إلى قريش , فقال: قد قتلت محمداً، فلما قُتل مصعب – رضي الله عنه – أعطى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – اللواء وقيل أعطاه أبو الروم بن عمير – رضي الله عنه

فلما انتهت المعركة نزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى أرضها , وأخذ يتفقد أصحابه – رضي الله عنهم – , حتى وقف على مصعب بن عمير – رضي الله عنه – , فدعا له , وأخبر أنه ومن معه من الصحابة – رضي الله عنهم – شهداء عند الله , فعن أبي هريرة – رضي الله عنه -، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين انصرف من أحد, مر على مصعب بن عمير – رضي الله عنه – وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودعا له، ثم قرأ هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه» “

وكذلك قال عنه – صلى الله عليه وسلم – في نفس الموقف: «لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حُلّة ولا أحسن لِمّة منك , ثم أنت شعث الرأس في بردة». ثم أمر – صلى الله عليه وسلم – بقبره – رضي الله عنه – , فنزل في قبره أخوه أبو الروم بن عمير وعامر بن ربيعة وسويبط بن سعد بن حرملة.

وقد استشهد مصعبٌ – رضي الله عنه – على رأس اثنين وثلاثين شهراً من الهجرة وهو ابن أربعين سنة أو يزيد شيئاً

وجاء في بعض التفاسير في قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى أنها نزلت في مصعب بن عمير – رضي الله عنه –

وعن سعد، عن أبيه، قال: أُتي عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – يوماً بطعامه، فقال: «قتل مصعب بن عمير , وكان خيراً مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة …»

قال خبابٌ عن مصعب رضي الله عنهما «… قتل يوم أحد، وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه , وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فَأَمَرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه، شيئا من إذخر …»

ثم جاءت حمنة بنت جحش -رضي الله عنها- , فنعوا لها أخاها عبدالله وخالها حمزة بن عبدالمطلب -رضي الله عنهما- فصبرت واسترجعت , ثم نعوا لها زوجها مصعب بن عمير – رضي الله عنه – , فما استطاعت أن تملك نفسها , فقد روت حمنة بنت جحش -رضي الله عنها-، أنها قيل لها: قتل أخوك , قالت: رحمه الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل لها: قتل خالك حمزة , فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل لها: قتل زوجك، قالت: واحزناه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن للزوج من المرأة لشعبةً ما هي لشيءٍ»
وهكذا مضى مصعب الصحابي الشاب الأسد كما يمضي كل الناس، ولكنه مضى عزيزًا وكبيرًا قد أعذر إلى الله بعمله الدؤوب وجهده المضيء، فكانت فرحته عند ربه حينما قال فيه وفيمن قتل معه: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران:169] نعم أحياء ولكن ليس كحياتنا، ينعمون في الجنة ويسرحون فيها حيث شاؤوا، مضى مصعب ذلك الشاب الغني المترف الذي كان يلبس أحسن الثياب وينتعل أفضل النعال، مضى من الدنيا ولا يملك شيئًا سوى ثوبه الذي عليه، إن غطوا رأسه بدت رجلاه، وإن غطوا رجليه بدا رأسه.

يقال إن زوجة مصعب بن عمير هي حمنة بنت جحش الأسدية، وتنتمي إلى بني أسد بن خزيمة، من الصحابيات وراويات الحديث، أمها هي أميمة بنت عبدالمطلب عمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأختها أم المؤمنين زينب بنت جحش.

جلدت حمنة في حادثة الإفك مع حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة عندما تحدثت عن أم المؤمنين عائشة، وتزوجت من مصعب وأنجبت منه فتاة، وبعد استشهاده تزوجت من طلحة بن عبيد الله، وأنجبت له محمد السجّاد، وعمران.

استشهد سيدنا مصعب رضي الله عنه وأرضاه، ولم يطلب في يوم من الأيام نعمةً ولا ثراءً، ولا سلطةً ولا وجاهةً، ولم يكن يفكر يومًا بمنصب أو رئاسة، ولم يكن له هَمٌّ سوى إنتصار دين الله على الكفر وأهله ، فآتاه الله أجره ، وأعطاه هو وإخوانه من كل شيء، أعطاه من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة، وأعطاه هو وإخوانه كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، وشهد لهم سبحانه بالإحسان ، فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم ، وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

تلك هي سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم ويكونوا مثله على الأقل في مجال الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح؟! وهل لشبابنا أن يتغنوا ببطولات هؤلاء الرجال من صحابة رسول الله بدل بطولات لاعبي الكرة ومغامرات الزناة ومدمني المخدرات؟!

هكذا كانت سيدنا سيرة مصعب بن عمير – رضي الله عنه – ذلكم الذي ضحى بماله وجسده ووقته وحياته كلها في سبيل الله, فقد قدم للإسلام كل ما يملك, وذلك بالدعوة إليه من خلال منهجٍ نبوي نهله من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – , فجزاه الله خيراً عن الإسلام والمسلمين , ورضي الله عن مصعب بن عمير وعن الصحابة أجمعين وحشرنا معهم في جنات النعيم , بجوار نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

قلم وصوت ومحام آل البيت
الكاتب المصري والمؤرخ الإسلامي
الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد
إبن السلطان محمد شمس الدين ابوهارون الشريف
الإدريسي الحسني العلوي الهاشمي القرشي

قلم وصوت ومحام آل البيت
الكاتب المصري والمؤرخ الإسلامي
الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد
إبن السلطان محمد شمس الدين ابوهارون الشريف
الإدريسي الحسني العلوي الهاشمي القرشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى