غير مصنف

سيدنا جعفر الطيار أشبه الناس بالرسول محمد عليهما السلام خَلقاً وخُلُقاً ذي الجناحين يطير بهما في الجنة

قلم وصوت ومحام آل البيت

الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد

سيدنا جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي المشهور بـجعفر الطيار، وذي الجناحين ، هو صحابي وقائد مسلم، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، وهو ابنُ عم النبي محمد وأحدُ وزرائه لقوله: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ قَبْلِي إِلا قَدْ أُعْطِيَ سَبْعَةَ رُفَقَاءَ نُجَبَاءَ وَوُزَرَاءَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: حَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ، وَعَلِيٌّ، وَحَسَنٌ، وَحُسَيْنٌ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَالْمِقْدَادُ، وَحُذَيْفَةُ، وَسَلْمَانُ، وَعَمَّارٌ، وَبِلالٌ».
وجعفر هو أخو الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لأبويه ، ويُقال إنه كان أشبه الناس بالرسولِ محمدٍ خَلقاً وخُلُقاً

أنه سيدنا الإمام جعفر بن أبي طالب عليهما السلام السيد الشهيد ، الكبير الشأن ، علم المجاهدين أبو عبد الله ، ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأخو الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لأبويه، وكان أسن من الإمام علي كرم الله وجهه بعشر سنين، وأخوه الإمام عقيل عليه السلام أسن منه بعشر سنين ، وأخوهم طالب أسن من عقيل بعشر سنين

أمه: «فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية القرشية»، وهي أمه وأم إخوته طالب وعقيل وعلي، وقد أسلمت وهاجرت إلى المدينة، وتوفيت بها، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وهي أيضاً أول هاشمية ولدت خليفة.

ويكنى الإمام جعفر بن أبي طالب عليه السلام ب أبو عبد الله، أبو المساكين ، جعفر الطيار ، ذو الجناحين ، سيدنا جعفر

أسلم الإمام جعفر بن أبي طالب عليه السلام قبل أن يدخل الرسول محمدٌ دار الأرقم ويدعو فيها، فقد أسلم بعد إسلام أخيه الإمام علي عليه السلام بقليل، وهو أحد السّابقين إلى الإسلام، فقد أسلم بعد خمسة وعشرين رجلاً، وقيل أسلم بعد واحد وثلاثين إنساناً، فكان هو الثاني والثلاثين.

وقد رُوي أن أبا طالب رأى النبيَّ محمداً وعلياً عليهما السلام يصليان، وعلي عن يمينه، فقال لجعفر : «صِلْ جناحَ ابن عمك، وصلِّ عن يساره».

أسلم سيدنا جعفر بن أبي طالب عليه السلام، ثم هاجر مع جماعة من المسلمين إلى الحبشة، ومكثوا فيها عند ملكها النجاشي .

شخصية سيدنا جعفر بن أبي طالب عليه السلام وصفاته:

اتصف الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالعديد من الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة ، فمن أبرز ملامح شخصيته ما يلي:

الشجاعة والإقدام

كان – سيدنا الإمام جعفر رضي الله عنه- شجاعاً مقداماً، فهو أحد القادة الثلاثة الذين عينهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة مؤتة، فقد كان قائداً فذاً مغواراً، أبلى فيها بلاء حسناً، حيث قام بعقر فرسه وذبحها في المعركة؛ إشارة على عزيمته وإقدامه، فلا فرار ولا تراجع، وكان يقاتل بكل شجاعة وبسالة على أرض المعركة، وقام بحماية راية الإسلام، حتى أصيبت يده اليمنى وقطعت، ثم أصيبت يده اليسرى فقطعت، فلم يدع الراية تسقط فحملها بعضديْه، وبقي على هذه الحال حتى استشهد.

وكان -رضي الله عنه- جريئاً قوي الموقف، شجاعاً في إظهار الحق، ويظهر ذلك من موقفه في محاورته للنجاشي بقصة مريم وعيسى -عليهما السلام-

الجود والكرم

كان -رضي الله عنه- شديد الكرم والجود، معطاءً سخياً، كثير الإنفاق في وجوه الخير، فكان يعطي ما عنده، ولا يستبقي شيئاً قليلاً ولا كثيراً، لا سيما الفقراء والمساكين، فكان من أخير الناس لهم، فيقوم على حوائِجهم، ويرعاهم ويُلازِمُهم، ويُطعِمُهم ممّا في بيتِه، ويكلمهم، حتى إنه لُقب بأبي المساكين، حيث ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: (كُنَّا نُسمِّي جَعفَرًا أبا المساكينِ).

ومما يدل على شدة كرمه وجوده ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنها-: (وكانَ أخْيَرَ النَّاسِ لِلْمِسْكِينِ جَعْفَرُ بنُ أبِي طَالِبٍ؛ كانَ يَنْقَلِبُ بنَا فيُطْعِمُنَا ما كانَ في بَيْتِهِ، حتَّى إنْ كانَ لَيُخْرِجُ إلَيْنَا العُكَّةَ الَّتي ليسَ فِيهَا شَيءٌ، فَنَشُقُّهَا فَنَلْعَقُ ما فِيهَا)، والعُكة هي وعاء جلدي يوضع فيه الطعام، كالسمن ونحوه.

الفطنة والدعوة

كان -رضي الله عنه- ذكياً فطناً، أريباً أديباً، حسن المنطق، راجح العقل، وافر الذكاء، يحسن القول في وقت القول، ويحسن ما يذكر في القول، فكان -رضي الله عنه وأرضاه- داعيةً حكيماً، ويظهر ذلك عندما كان أميراً على المؤمنين في الحبشة، فقام بمحاورة النجاشي والنقاش معه، حيث تمكن من إقناعه بالإسلام، فكان -رضي الله عنه- سبباً في إسلام النجاشي، فتكفل النجاشي بتوفير الأمن والأمان للمسلمين في الحبشة

هجرته إلى الحبشه

عندما رأى النبيُ محمدٌ ما يصيب أصحابَه من البلاء، وأنه لا يقدر على منعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب الرسولِ إلى أرض الحبشة، مخافةَ الفتنة وفراراً بدينهم، فكانت أولَ هجرة في الإسلام

أول من خرج من المسلمين إلى الحبشة عثمان بن عفان، معه امرأته رقية بنت الرسول محمد، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، معه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، والتي ولدت هناك محمد بن أبي حذيفة، وكذلك الزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس (ويقال: هو أول من قدمها)، وسهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة. فكان هؤلاء العشرةُ أولَ من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة. قال ابن هشام: «وكان عليهم عثمان بن مظعون، فيما ذكر لي بعض أهل العلم»

ثم خرج سيدنا جعفر بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومعه امرأته أسماء بنت عميس، والتي ولدت له بأرض الحبشة ابنه الإمام عبد الله عليه السلام زوج بنت عمه الطاهرة المباركة الشريفة السيدة زينب بنت الإمام علي بن ابي طالب عليهما السلام ، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة، فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه ، فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلاً، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يُشك فيه. أي يُشك فيه أكان خرج إلى الحبشة أم لا.

وكان مما قيل من الشعر في الحبشة، أن عبد الله بن الحارث عليه السلام حين أمن المسلمون بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشي، وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحداً، وقد أحسن النجاشي جوارهم حين نزلوا به، قال أبياتاً منها:

يا راكباً بلغن عني مغلغلةً من كان يرجو بلاغ الله والدينِ
كل امرئ من عباد الله مضطهدٍ ببطن مكة مقهورٍ ومفتونِ
أنا وجدنا بلاد الله واسعةً تنجي من الذلِ والمخزاةِ والهونِ

قصَّت أم المؤمنين السيدة أم سلمة بنت أبي أمية عليها السلام قصة رسولَي قريش إلى أرض الحبشة فقالت : لما نزلنا أرض الحبشة، جاورْنا بها خيرَ جارٍ النجاشيَّ، أمِنَّا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين ، وأن يهدوا للنجاشي هداياً مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم (أي الجلود) ، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: «ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدِّما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم»، فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبقَ من بطارقته بطريقٌ إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: «إنه قد ضوى (أي لجأ) إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بَعَثَنَا إلى الملك فيهم أشرافُ قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم»، فقالوا لهما: «نعم».

ثم إنهما قدَّما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: «أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه»، ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامَهم النجاشيُّ، فقالت بطارقته حوله: «صدقاً أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم»، فغضب النجاشي، ثم قال: «لاها الله، إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني».

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدعاهم، فلما جاءهم رسولُه اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: «ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟»، قالوا: «نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم كائناً في ذلك ما هو كائن»، فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: «ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟»، أو قال: «ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية»، فكان الذي كلمه سيدنا جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فقال له:
أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنَّا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشركْ به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: «هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟»، فقال له جعفر بن أبي طالب: «نعم»، فقال له النجاشي: «فاقرأه علي»، فقرأ عليه صدراً من سورة مريم: كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا- إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ، إلى الآيات: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا
قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: «إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون»

فلما خرج رسولا قريش من عنده، قال عمرو بن العاص: «والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم»، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: «لا نفعل، فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا»، قال: «والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد». ثم غدا عليه من الغد فقال له: «أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه»، فأرسل إليهم ليسألهم عنه، فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: «ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟»، قالوا: «نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن»، فلما دخلوا عليه قال لهم: «ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟»، فقال سيدنا جعفر بن أبي طالب عليه السلام: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: «والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود» (أي أن قولك لم يعد عيسى بن مريم بمقدار هذا العود)، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: «وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي (أي آمنون)، من سبكم غرم»، ثم قال: «من سبكم غرم»، ثم قال: «من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبراً (أي جبلاً) من ذهب، وأني آذيت رجلاً منكم، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه»، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار، مع خير جار

وفي رواية أخرى أن قريشاً بعثت عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد (وليس عبد الله بن أبي ربيعة كما في الرواية السابقة)، بعثتهما بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له: «إن نفراً من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا»، قال: «فأين هم؟»، قالا: «في أرضك، فابعث إليهم»، فبعث إليهم، فقال جعفر: «أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه»، فسلم ولم يسجد، فقالوا له: «مالك لا تسجد للملك؟»، قال: «إنا لا نسجد إلا لله عز وجل»، قال: «وما ذاك؟»، قال: «إن الله بعث إلينا رسولاً ثم أمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة»، قال عمرو: «فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم»، قال: «فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟»، قال: «نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد»، فرفع عوداً من الأرض ثم قال: «يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه»، وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما.

واجتمع أهل الحبشة يوماً فقالوا للنجاشي: «إنك قد فارقت ديننا»، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سفناً، وقال: «اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هُزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا»، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: «هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم»، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة، وصفوا له، فقال: «يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟»، قالوا: «بلى»، قال: «فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟»، قالوا: «خير سيرة»، قال: «فما بالكم؟»، قالوا: «فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد»، قال: «فما تقولون أنتم في عيسى؟»، قالوا: «نقول هو ابن الله»، فقال النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه: «هو يشهد أن عيسى بن مريم»، لم يزد على هذا شيئاً، وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا عنه. فبلغ ذلك النبيَ محمداً، فلما مات النجاشي صلى عليه، واستغفر له.

هاجر جعفر إلى المدينة المنورة يوم فتح خيبر، فكانت له هجرتان : هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة ، وآخى الرسولُ بينه وبين معاذ بن جبل الخزرجي الأنصاري عليهما السلام.

قدِم جعفر بن أبي طالب على الرسولِ محمدٍ يوم فتح خيبر، فقبَّل الرسولُ بين عينيه، والتزمه وقال: «ما أدري بأيهما أنا أسر: بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟» أو قال: «ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً: بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟»، وأنزله الرسولُ إلى جنب المسجد.

وقد روي عن أبي موسى أنه قال: بلغنا مخرج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، في بضع وخمسين رجلاً من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فوافقْنا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا -يعني لأهل السفينة- سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس «صاحبة الهجرتين» وزوجه سيدنا جعفر بن ابي طالب عليه السلام. وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: «من هذه؟»، قالت: «أسماء ابنة عميس»، قال عمر: «الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟»، قالت أسماء: «نعم»، قال: «سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم منكم»، فغضبت وقالت: «كلا والله كنتم مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار -أو في أرض- البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه»، فلما جاء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: «يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا»، قال: «فما قلت له؟»، قالت: «قلت كذا وكذا»، قال: «ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان»، قالت: «فلقد رأيت أبا موسى وأهل السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم»

سيدنا جعفر عليه السلام في غزوة مؤتة

شهد جعفر بن أبي طالب غزوة مؤتة التي دارت رحاها في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة بين المسلمين والروم، وقد أمَّره الرسولُ محمدٌ على جيش المسلمين في حال أصيب قائدهم الأول زيد بن حارثة، إذ قال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس». فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودَّع الناسُ أمراءَ الرسول وسلموا عليهم.

ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناسَ أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلي، مائة ألف منهم. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا: «نكتب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له». فشجع عبدُ الله بن رواحة الناس وقال: «يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة»، فقال الناس: «قد والله صدق ابن رواحة»، فمضى الناس.

مضى المسلمون، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها “مشارف”، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عباية بن مالك (ويقال عبادة بن مالك). ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة عليه السلام براية الرسولِ صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، أي سال دمه فمات.

ثم أخذ سيدنا جعفر عليه السلام الراية فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء (أي رمى بنفسه عنها)، فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قُتل، فكان الإمام جعفر عليه السلام أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام ومعنى عقرها: أي ضرب قوائمها وهي قائمة بالسيف، وذلك مخافة أن يأخذها العدوُّ فيقاتلَ عليها المسلمين، قال السهيلي: «لم يعب ذلك عليه أحد، فدل على جوازه إذا خيف أن يأخذها العدو فيقاتل عليها المسلمين، فلم يدخل هذا في باب النهي عن تعذيب البهائم وقتلها عبثاً، غير أن أبا داود قال: ليس هذا الحديث بالقوي. وقد جاء فيه نهيٌ كثيرٌ عن الصحابة…»

وقد رُوي عن عبد الله بن الزبير عليه السلام، وكان في غزوة مؤتة أنه قال: والله لكأني أَنظر إلى جعفر عليه السلام حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها ثم قاتل حتى قُتل وهو يقول:

يا حبـذا الجنةَ واقترابَها
طيبةً وبارداً شرابُـها
والروم روم قد دنا عذابُها
كافرة بعيدة أنسابُها
عَــلَــيَّ إذا لاقـيـتـهـا ضـرابُـهـا

ورُوي أن سيدنا جعفر بن أبي طالب عليه السلام قد أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قُتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقيل كان عمره إحدى وأربعين سنة، وقيل غير ذلك. ويؤمن المسلمون أن الله تعالى قد أثابه بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، فقد قال الرسولُ محمدٌ: «أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة». ويُقال إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه بنصفين.

ولما قُتل سيدنا جعفر عليه السلام وُجد به بضع وسبعون جراحة ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، كلها فيما أقبل من بدنه، وقيل: بضع وخمسون، والأول أصح.

وقال عبد الله بن رواحة: «كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين من ضربة ورمية». ورُوي عن ابن عمر أنه وقف على جعفر بن أبي طالب يومئذ وهو قتيل فعد به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره.

وقال ابن إسحاق: «فلما أصيب القومُ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما بلغني: «أخذ الراية زيد بن حارثة، فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر، فقاتل بها حتى قتل شهيداً»، ثم صمت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة ما يكرهون، ثم قال: «أخذها عبد الله بن رواحة، فقاتل بها حتى قتل شهيداً»، ثم قال: «لقد رفعوا في الجنة على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد، ثم مضى»

ورُوي أنه لما التقى الناس بمؤتة جلس الرسول محمد على المنبر «وكُشف له ما بينه وبين الشام، وهو ينظر إلى معتركهم»، فقال: «أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطَان فحبّب إليه الحياة وكرّه إليه الموت وحبّب إليه الدّنيا، فقال: «الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين يُحَبّب إليّ الدّنيا»، فمضى قُدُمًا حتى استشهد»، فصلى عليه النبي محمد وقال: «استغفروا له، وقد دخل الجنة وهو يسعى»، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فمنّاه الحياة وكرّه إليه الموت ومنّاه الدّنيا، فقال: «الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنّيني الدّنيا»، ثم مضى قُدُمًا حتى استشهد، فصلى عليه الرسول محمد ودعا له، ثم قال الرسول محمد: «استغفروا لأخيكم فإنه شهيد، دخل الجنة فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة»، ثم أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة، فاستشهد، ثم دخل الجنة معترضًا، فشق ذلك على الأنصار، فقيل: «يا رسول الله ما اعتراضه؟»، قال: «لما أصابته الجراحُ نَكَلَ فعاتب نفسَه فشَجُعَ، فاستشهد فدخل الجنة»، فَسُرِّيَ عن قومه

حزن المسلمين على مقتل جعفر عليه السلام

رُوي عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب عن جدتها أسماء بنت عميس (زوجة جعفر) أنها قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد دبغت أربعين مناً، وعجنت عجيني، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم، فقال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ائتيني ببني جعفر»، فأتيته بهم، فتشممهم وذرفت عيناه، فقلت: «يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟»، قال: «نعم، أصيبوا هذا اليوم»، فقمت أصيح، واجتمعت إلي النساء، وخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أهله، فقال: «لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاماً، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم».

ويروى أنه لما أصيب سيدنا جعفر عليه السلام، أرسل الرسولُ محمد صلى الله عليه وسلم إلى امرأته أن ابعثي إلي بني جعفر، فأتي بهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن جعفراً قد قدِم إليك إلى أحسن الثواب، فاخلِفه في ذريته بخير ما خلّفت عبداً من عبادك الصالحين».

وعن السيدة عائشة عليها السلام أنها قالت: «لما أتى وفاة جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الحزن». وروي أن الرسولَ لما أتاه نعي جعفر، دخل على امرأته أسماء بنت عميس، فعزاها فيه، ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: «واعماه»، فقال الرسولُ محمدٌ: «على مثل جعفر فلتبك البواكي». ودخله من ذلك هم شديد، حتى أتاه جبريل، فأخبره أن الله قد جعل لجعفر جناحين مضرجين بالدم يطير بهما مع الملائكة».

شعر حسان بن ثابت في بكاء جعفر عليه السلام

قال حسان بن ثابت يبكي جعفر بن أبي طالب عليه السلام:
ولقد بكيت وعز مهلك جعفر حِب النبي على البرية كلها
ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي من للجلاد لدى العُقاب وظلها
بالبيض حين تُسل من أغمادها ضرباً وإنهال الرماح وعلها
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر خير البرية كلها وأجلها
رزءاً وأكرمها جميعاً محتداً وأعزها متظلماً وأزلها
للحق حين ينوب غير تنحل كذباً، وأنداها يداً، وأقلها
فحشاً، وأكثرها إذا ما يجتدى فضلاً، وأبذلها ندى، وأبلها
بالعرف غير محمد لا مثله حي من احياء البرية كلها

ودُفن سيدنا جعفر عليه السلام في منطقة مؤتة، وله مقام يقع في بلدة المزار الجنوبي في الأردن جنوب مدينة الكرك بنحو 10 كيلومترات، وعلى بُعد كيلومتر واحد إلى الشرق من الشارع العام المؤدي إلى بلدة المزار في حرم مسجد جعفر بن أبي طالب الكبير. وتاريخ الموقع يعود إلى عصر الأيوبيين والمماليك، حيث قاموا ببناء الضريح والقبة، ومن بعدهم العثمانيون الذين اهتموا بهذا المزار، فبنوا القباب وغطوا الأضرحة ببلاطات رخامية، وقد هُدم هذا المقام مرةً إمّا بفعل الزلازل أو عند احتلال الصليبيين لمنطقة الكرك.

وقد قام قسم الآثار الإسلامية في وزارة الأوقاف الأردنية بإجراء حفريات أثرية أسفرت عن اكتشافات مهمة، منها إبراز الواجهة الشمالية وإظهارها وبشكل كامل للموقع، وتمّ العثور على بوابة تؤدي إلى ممر مبلط يصل إلى ساحة المسجد في منتصف الواجهة الشمالية، وكذلك تمّ العثور على قبة تعلو أقواساً أربعة أحدها ظاهر والثلاثة الباقية منهدمة وأرضيتها مبلطة بالرخام، كما عثر على محراب المسجد الذي يبلغ ارتفاعه مترين تقريباً، وكذلك عثر على عدد من قطع العملة والأسرجة الفخارية والنقوش الأثرية. وإلى الجنوب من المشهد بما يقرب من 500 متر يقع مسجد عبد الله بن رواحة في الموقع الذي توفي فيه، وكذلك قبر زيد بن حارثة وفي خبر آخر أنه حمل للمدينة المنورة وقال الكرباسي إنه قول ضعيف لا يؤيده دليل.

الإمام جعفر عليه السلام وفضله ومكانته في الإسلام:

كان سيدنا جعفر بن أبي طالب عليه السلام أشبه الناس بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم خَلقاً وخُلُقاً، فعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبيَّ محمداً قال: «وأما أنت يا جعفر فأشبهت خلقي وخلقي، وأنت من عترتي التي أنا منها»، وبعدما قُتل سيدنا حمزة بن عبد المطلب عليه السلام في غزوة أحد، اختصم الإمام علي بن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة عليهما السلام في ابنته السيدة أمامة بنت حمزة، فقال علي: «أنا أخذتها وهي ابنة عمي»، وقال جعفر: «ابنة عمي، وخالتها تحتي»، وقال زيد: «ابنة أخي»، فقضى بها النبيُّ محمدٌ لخالتها (أي لزوجة جعفر)، وقال: «الخالة بمنزلة الأم»، وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك»، وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي»، وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا»، قال علي: «ألا تتزوج ابنة حمزة»، قال: «إنها ابنة أخي من الرضاعة».

وعن أبي هريرة أنه قال: «قال رسول الله ﷺ: «رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة»». كما روي عن أبي هريرة أنه قال: «ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا ركب الكور بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفضل من جعفر».

وقد كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين ويُحسن إليهم ويخدمهم، حتى سُمي أبا المساكين، فعن أبي هريرة أنه قال: «إن كنت لألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية وهي معي، كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا، فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فنشقها، فنلعق ما فيها».

وقال أبو هريرة أيضاً: «كان جعفر يحبّ المساكين، ويجلس إليهم، ويخدمهم ويخدمونه، فكان رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُكنيه أبا المساكين».

كما كان لجعفر بن أبي طالب مكانة عظيمة في نفوس الصحابة، قال عبدُ الله بنُ جعفر: «كنت إذا سألت علياً شيئاً فمنعني، وقلت له: بحق جعفر، إلا أعطاني»، وقال: «كان عمر بن الخطاب إذا رأى عبد الله بن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين».

أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّيْدَلانِيُّ، أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنَ أَحْمَدَ الْحَدَّادَ أَخْبَرَهُمْ وَهُوَ حَاضِرٌ، أَنْبَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثنا أَبُو بَحْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَوْثَرٍ الْبَرْبَهَارِيُّ، ثنا عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ الْوَاسِطِيُّ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى ابْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ عَنْ /يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ

زوجه الإمام جعفر عليه السلام:

لم يتزوج سيدنا جعفر عليه السلام إلا السيدة أسماء بنت عميس عليها السلام، أسلمت قديماً، وهاجرت معه إلى الحبشة، وولدت له بالحبشة سيدنا الإمام عبد الله ، وعوناً، ومحمداً عليهما السلام، ثم هاجرت معه إلى المدينة، فلما قُتل عنها سيدنا الإمام جعفر بن أبي طالب عليه السلام تزوجها أبو بكر الصديق عليه السلام، فولدت له سيدنا محمد بن أبي بكر عليه السلام ثم مات عنها فتزوجها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فولدت له يحيى وعون ومسلمة.

أبناؤه هم

سيدناحميد بن جعفر بن أبي طالب، ولد بعد عام 12 ق.هـ في مكة على الظاهر، لكنه درج ولم يعقب. سيدناحمزة بن جعفر بن أبي طالب، ولد حمزة عام 10 ق.هـ في مكة على الظاهر، لكنه هو الآخر درج.
_ سيدنا الإمام عبد الله الأكبر بن جعفر بن أبي طالب، ولد عام 1هـ بالحبشة، وهو أول مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة، وقدم مع أبيه المدينة ، وتزوج من بنت عمه الطاهرة المباركة الشريفة السيدة زينب بنت الإمام علي عليهما السلام.
سيدنا محمد الأكبر بن جعفر بن أبي طالب، ولد عام 2هـ بالحبشة، واستشهد في صفين عام 37هـ. سيدنا عون بن جعفر بن أبي طالب ، ولد عام 3هـ بالحبشة، قُتل في واقعة الطف، وقيل قُتل بتستر، ولا عقب له.
محمد الأصغر بن جعفر بن أبي طالب، ولد عام 4هـ في الحبشة، وقتل بكربلاء عام 61هـ وله 56 سنة. عبد الله الأوسط بن جعفر بن أبي طالب، ولد عام 5هـ في الحبشة، إلا أنه درج ولم يعقب.
عبد الله الأصغر بن جعفر بن أبي طالب، ولد عام 6هـ في الحبشة، إلا أنه الآخر درج. الحسين بن جعفر بن أبي طالب، ولد عام 8هـ، ليس له عقب، وقد درج، والظاهر أنه ولد بعد الهجرة إلى المدينة
أحمد بن جعفر بن أبي طالب، له مزار في العراق نعمى بنت جعفر بن أبي طالب، عن أسماء بنت عُمَيْس أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لنعمى بنت جعفر بن أبي طالب: «مَا لِي أَرَى أَجْسَادَ بَنِي جَعْفَرٍ أَنْضَاءَ؟ أَبِهِمْ حَاجَةٌ؟ قالت: لا، ولكنهم تسرع إليهم العين، أفأرقيهم؟ قالت: فعرضتُ عليه كلامًا لا بأس به، فقال: ارْقِيهِمْ».
_أم القاسم بنت جعفر بن أبي طالب، ذكرها البَغَوِيُّ بسنده إلى أم النعمان بنت مجمِّع بن يزيد الأنصارية، قالت: أخبرني مجمع بن يزيد، قال: لما تأيَّمتْ أم القاسم بنت ذي الجناحين من حمزة دعت أبا بكر بن عبد الرحمن، والقاسم بن محمد، وعبد الرحمن، ومجمع ابني يزيد ــ رجلين من قريش ــ ورجلين من الأنصار، فقالت لهم: «إني قد تأيمت كما ترون، وإني مشفقة من الأولياء أن ينكحوني من لا أريد نكاحه، إني أشهدكم أني من أنكحتُ من الناس بغير إذني فإني عليه حرام، ولستُ له بامرأة»، فقال لها عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ومجمع: «لو فعلوا ذلك لم يجر عليك، قد كانت الخنساء بنت خدام أنكحها أبوها ولم تأذن، فجاءت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فردَّ نكاح أبيها، وكانت ثيبًا فيما بلغنا»

وقال ابن حجر العسقلاني: «هكذا وجدته في ترجمة مجمع بن يزيد من معجم البّغوي، ولم ينسب حمزة، وأنا أخشى أن فاطمة بنت القاسم بن محمد بن جعفر كانت تُكْنَى أم القاسم؛ وإنما نُسبت في هذا الخبر إلى جدها الأعلى جعفر بن أبي طالب، ومستند هذا الظن أن الزبير بن بكار – وهو المقدم في معرفة أنساب قريش – لم يذكر في أولاد جعفر بن أبي طالب بنتًا يقال لها أم القاسم، وذكر في أولاد عبد الله بن جعفر فاطمة بنت القاسم بن محمد بن جعفر، وأنها كانت تحت حمزة بن عبد الله بن جعفر، وكان معاوية خطب أم كلثوم هذه لابنه يزيد ، فجعلت أمرها لسيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، فزوجها من ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر، فولدت له فاطمة، فزوجها حمزة بن عبد الله بن الزبير في خلافة أبيه. قال الزُّبَيْرُ: ولفاطمة هذه عقب في ولد حمزة بن عبد الله، وفيمن ولدوا. انتهى. وقد كتبتها على الاحتمال، والعلم عند الله تعالى.».

السلام عليك يا بن عم النبي (صلى الله عليه وآله)
السلام عليك يا قائد المسلمين إذ قال فيك رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أشبهت يا جعفر خَلْقِي وخُلُقي) وكنّاكَ أبا المساكين، وقد أدَّيت الأمانة واجتنبت الخيانة من جهادك الروم حتى قتلت شهيداً صابراً بعدما قطعت يداك فعوّضك الله بهما جناحين تطير بهما في الجنة كما أخبر عنك النبي (صلى الله عليه وآله)،
السلام عليك يا بحر العلوم وكنزها ومحيي الرسوم ومروّجها، السلام عليك يا حافظ الدين وعون المؤمنين ومروّج شريعة سيد المرسلين،
السلام عليك يا عضد الإسلام،
السلام عليك أيها الزاهد الكامل،
السلام عليك أيها الصالح التقي،
السلام عليك أيها العارف المؤيد والعابد المسدَّد، أشهد أنك الأمين على الدنيا والدّين وأنك بالغت في إحياء الدين واجتهدت في حفظ شريعة أشرف الأولين والآخرين عليه وآله صلوات المصلين واتبعت سنن الأبرار وأشهد أنك أظهرت الحق وأبطلت الباطل وسهلتَ السبيل وأوضحت الطريق ونصرت المؤمنين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً. اللهم املأ قبره نوراً ورَوْحاً وريحاناً، وأسكنه في بحبوحة من جنان النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين).

قلم وصوت ومحام آل البيت

إبن وليد الكعبة وشهيد المحراب أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام

إبن السلطان محمد شمس الدين ابوهارون

الإدريسي المحضي الحسني العلوي الهاشمي القرشي العدناني
الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى