مقالات

عماد نصير يكتب:  المثقفون الجدد وهدم رموز الأمة 


بات من بديهات وسمات هذا العصر أن المثقف ليس بالضرورة أن يمتلك مكتبة ضخمة، تزخر بأمهات الكتب والمراجع والأبحاث فى شتى العلوم، ليشبع من خلالها نهمه وشغفه المعرفى، وذلك عكس ماكان سائدا قبل عقد وبضع سنوات على الأكثر،  فما بات يعرف بـ “السوشيال ميديا” ودخول الإنترنت للقرى المعدمة على حد سواء مع المدن العصرية، أوجد نخبا فكرية ونوعا جديداً يضاف إلى تصنيف المثقفين، أو إن شئت فسمهم بالمثقفين الجدد..
ومن خلال تلك الطفرة المعرفية والانتشار الواسع لمصادر الاطلاع، ازدادت سرعة التناول المعرفى دون وعى، كما اتسعت دائرة النقد لتوفر ذلك بسهولة، فقديما حينما كان أحدهم يرغب فى معرفة توجه فلان الفكرى والدينى، كان يستغرق أعواما فى قراءة مؤلفاته وتتبع أرائه وتقصى أبجدىات توجهه وتياره الفكرى المحسوب عليه، أما وإننا فى عصر الإنترنت فيكفيك ساعات من التصفح الإلكترونى لترى خلاصة تلك السنوات من البحث حول شخصية وفكر وصدق أحدهم، وبالتالى بناء رأي ورؤية ومن ثم تبدأ فى إعادة تصنيف رموز التارىخ والعلوم من زوايا جدىدة ومغايرة وفق منهج معاكس نسبىا.
صادفت منذ أيام قليلة إحدى القنوات التي تعنى بالنقد المعرفى لباحث فى التراث والتارىخ والعلوم، فاستوقفنى كثيراً بعض مما يطرحه من تحليل نقدى حول العدىد من الأعلام مثل: (ابن رشد، وابن سينا، والفارابى، والجاحظ، وأبو حيان …) وغيرهم الكثىر والكثىر ممن طالتهم أيدي النقد في تلك الحلقة وذلط الطرح، حيث أخذ الباحث يسوق أدلة وآراء نخبة من العلماء المعاصرين حول تلك الشخصيات التي تتصف بأنها من الرموز، وهنا بدأت أستمع وأتلقى طرحا مغايرا لكل من تناولهم بالبحث النقدى الذى غلب عليه الصبغة الدينية إلى حد ما، ليلقى على مسامع متابعيه تجاوزات عقائدية بالجملة، وذلك من وجهة نظر العلماء المختصين الذين استشهد بآرائهم، حول من صنفوا رموزا وقدوة فى علوم شتى، حتى وصل الأمر إلى وصف أكثرهم بالزندقة والفسق وأحيانا بالخروج عن الملة.
وبطبيعة الحال يقع المتلقى هنا فى حيرة من أمره بالغة، ربما من هول الصدمة او من حجمها وكثرة الأسماء المطروحة على طاولة النقد، خاصة وأن منهم رموزا خالدة ولها وزنها، ثم يأتى أحدهم يمحو تاريخاً تربينا وتتلمذنا عليه وهذا رأيه وله الحق في النقد مادام وفق أصول النقد البناء وقواعده.
الشاهد عزيزى القارئ أن المنبر أصبح يتسع لكل من يملك قناة او مدونة واستوديو صغير فى ركن منزله، ومن خلاله ينطلق إلى أفق الميديا، وبالتالى يدلى بدلوه نقدا ومدحا أو حتى ذماً وتقريعا.
ومن هنا أصبح لزاما على الجهات العلمية والفكرىة كل على حسب تخصصه، أن تنشئ لنفسها منابر تنويرية أكثر قوة وأبلغ حجة، تواجه من خلالها الآراء التى تسبح عكس التيار، وتعصف بالبناء الفكرى والمعرفى الذى تربت عليه عشرات الأجيال، فتقر رأى من أصاب وتناجز وتكافح الآخرين بالحجة والأدلة، حتى لا يترك المجال فارغاً لكل مجتهد دون دراية، فينال ممن ينال وفق هواه، أو يساند رأياً فاسداً لمجرد أنه وافق شيئاً في نفسه.
أعمال الرموز التي يتم النيل منها تتكلم عنهم وتخلد ذكرهم، لكن من يخلطون أمر الدين بأمر الدنيا فيلبسون على العامة ومحدودى الفكر منابع ثقافتهم أمر جد خطير، فما ضرني إذا كان مخترع أو أديب أو حتى طبيب ملحداً مثلا، هذا شأنه مع ربه ولن أحاسب أنا عن معتقده، لذا وجب التفرقة بين مخرجات وإنجازات تلك المدارس الفكرية الرائدة الممثلة في نوابغ أثروا حياتنا بأنواع من العلوم، وبين آرائهم ومعتقداتهم الفكرية، ومن ثم نخلط ونصنفهم بالسوء إجمالا لمجرد أن لهم رأياً مغايراً، ونتناسى ما قدموه من إسهامات فى طريق النهضة البشرية.
 
 
             نلقاكم فى قعدة عرب أخرى

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى