مقالات

أنا إبن مولاي إدريس

بقلم الإدريسي عبدالرحيم حماد
كاتب ومؤرخ إسلامي

يزخر التاريخ بقصص جنودٍ مجهولين قامت على أكتافهم وبتضحياتهم دولٌ وأمم، وزال غيرُها، ولم يحصلْ أكثر هؤلاء على نصيبٍ وافٍ من الشهرة والتقدير العام يوازي حجم أفعالهم وتأثيرهم.

تخبرنا كتب التاريخ الإسلامي أنَّ دولة الأدارسة التي نشأت في المغرب الإسلامي عام 172هـ، تُعتبر أول دولة كبيرة مستقرة تنتسب إلى آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام من فرع الإمام علي كرم الله وجهه، وهي تحمل اسم أحد أشهر أئمة آل البيت في تاريخ السياسة، وهو إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أخو شهيد آل البيت محمد النفس الزكية الذي استشهد ثائرًا ضد العباسيين عام 145هـ.

لم يتمكَن الإمام إدريس من تأسيس تلك الدولة التي خلَدت اسمَه في كتاب التاريخ، إلا بعد أن مرَّ برحلة هروبٍ دراماتيكية، كان يمكن أن يفقد فيها رأسَه في أية مرحلةٍ، لولا أن قيِضَ له رفيقٌ استثنائي في تلك الرحلة، هو خادمه الأمين راشد، والذي رافقه في تلك الرحلة، وخاض معه أهوالَها، وحفظ دولة مولاه إدريس في أوقاتٍ عصيبة.

شهد يوم التروية 8 ذي الحجة من عام 169هـ موقعة مأساوية غير متكافئة، دارت رحاها في منطقة فخّ قرب مكة المكرمة، بين قوات الدولة العباسية المتفوقة عددًا وعدة وبطشًا، وقوات أحد ثوار آل البيت وهو أبو عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والذي خرج ثأرًا لمظالم ومقاتل آل البيت في عهد أولاد عمومتهم العباسيين، الذين استأثروا بالثروة والسلطة، وبطشوا بخصومهم بلا هوادة.

لم يحمِل الحسين بن علي المذكور فحسب اسم عم أجداده الحسين بن علي رضي الله عنهما، شهيد كربلاء عام 61هـ، إنما حمل مصيره أيضًا، فكانت وقعة فخ بمثابة كربلاء جديدة لآل البيت وأنصارهم، استُشهد خلالها أكثر من مائة منهم، على رأسهم الحسين قائد الثورة، على مرأى ومسمع من آلاف الحجاج الذين تعمَّد الحسين الثورة في موسم حجهم، لعلّه يجد لدعوته أنصارًا كثر.

نجح بعض الثوار المنهزمين في الفرار من ساحة المقتلة، والاندساس بين قوافل الحجاج، فكانوا أكثر حظًا من آخرين اعتُقلوا، ونفذت فيهم السلطات العباسية حكم الإعدام. كان إدريس بن عبد الله أبرز هؤلاء الذين نجوا بصعوبة وفرُّوا من الحجاز في ذلك الوقت العصيب، مندسًّا في قوافل حجاج مصر والمغرب القافلة إلى بلادها. وكان يصحبه ويرعى شؤونه مولاه راشد، الذي أظهر ذكاء كبيرا في تلك الأوقات التي ترنح فيها مصيرهما على حافة الحياة والموت.

لحسن حظ إدريس وراشد، كان واضح هو مسئول قوافل البريد المنطلقة من مصر، فأخفى الرجليْن، وأرسلهما مع القافلة المتجهة إلى المغرب، وحرصًا من واضح على سلامة الإمام إدريس، فإن في المراحل الأولى من الطريق التي تكثر فيها الكمائن الأمنية على الطريق، اصطحب إدريس بنفسه ليتمكن من تجاوزها دون تفتيش قد يكشف حقيقته، وسلك به في بعض المناطق بعض الطرق غير المألوفة، أما راشد فكان بمفرده في قافلة البريد، ثم اجتمع إدريس براشد قرب تونس، وأكملا رحلتهما غربًا منفصلين عن قافلة البريد. وفي الطريق من القيروان بتونس إلى المغرب، عاد راشد إلى طريقة تبادل الأدوار، وألبس الإمام إدريس زيًا من الصوف الخشن، وأخذ يبالغ في الاشتداد عليه أمرًا ونهيًا أمام الناس، ليقتنعوا تمامًا أنه مجرد خادمٍ، وليس أخطر رجلٍ وطأت قدماه أرض المغرب منذ عبد الرحمن الداخل الذي عبر إلى الأندلس.

وصل مولاي إدريس وراشد إلى تلمسان غربي الجزائر الحالية، ثم إلى طنجة المغربية، لكنَّهما لم يجدا في المدينتيْن بيئةً خصبة للإعلان عن دعوة آل البيت، فاتَّجها إلى مدينة وليلي المغربية عام 172هـ، أي بعد ثلاث سنوات كاملة من مقتلة فخ، وتقع تلك المدينة في منطقة جبلية تُعرف بجبل زرهون، والتي يقع فيها الآن مدينة سياحية مغربية تُسمَّى (مولاي إدريس زرهون) والتي تضم ضريح الإمام إدريس الأول.

كانت وليلي مدينة حصينة، وغنية بالمياه والزروع المختلفة، وكان حاكم تلك المدينة من البربر واسمه إسحاق بن محمد بن عبد الحميد، فلما عرفه إدريس بنفسه، تعاطفَ معه كثيرًا، ووعد بنصرته، وبعد بضعة أشهر، دعا حاكم المدينة سكانَها من البربر إلى بيعة إدريس إماما، وخلع البيعة للدولة العباسية، فانسابوا مبايعين أفرادًا وجماعات، وكان البربر قد ضاقوا ذرعًا بالحكومات الاستبدادية الأموية والعباسية المتتابعة، وتوسَّموا في الإمام إدريس أن يقيمَ العدل، فبايعتْهُ قبائل بربرية كبرى مثل أوربة ومغيلة وصُدينة، ثم زناتة ومكناسة .. إلخ.

أَيهَا النَّاس، لَا تَمُدُّنَّ الْأَعْنَاق إِلَى غَيرنَا، فَإِن الَّذِي تجدونه من الْحق عندنَا لَا تجدونه عِنْد غَيرنَا
—الإمام إدريس في إحدى خُطبه في وليلي

ظلَّ راشد إلى جوار الإمام إدريس يلازمه ليلَ نهار، ويحوطه إحاطة السوار بالمعصم، خوفًا عليه من الاغتيال والمكائد، لكن مضت أقدار الله على إدريس رغم كل ما كان يفعله راشد.

استشهاد إدريس: راشد ينقذ الدولة
عام 172 و 173هـ، شنَّ الإمام إدريس غزواتٍ قوية ضد القبائل البربرية الأخرى غير المسلمة، وانتصر عليها انتصاراتٍ كُبرى، ووطَّدَ دولته في المغرب الأقصى. ثم في النصف الثاني من عام 173هـ، اتجَّه إدريس الظافر إلى الشرق، وحاصر تلمسان، حاضرة المغرب الأوسط، فاستسلمت المدينة، وبايعتْه.

ذاعت أخبار هذا الانتصار الخطير في كافة أرجاء العالم الإسلامي، وأثارت قلق هارون الرشيد العباسي في بغداد، والذي خشي أن يقوى أمر إدريس، ويطمع في التمدد شرقًا أكثر فأكثر وصولًا إلى القيروان فطرابلس فمصر، ومن ثمَّ، يشكل تهديدًا جذريًا للخلافة العباسية نفسها. عقد الرشيد اجتماعًا طارئًا لبحث أمر دولة إدريس مع كبار رجال البلاط العباسي، وفي مقدمتهم الوزير يحيى البرمكي الداهية، والذي اقترح على الرشيد أن يرسل من يغتال إدريس، لأن إرسال جيش كبير يقطع كل تلك المسافة، ليس حلًا عمليًا.

أرسلَ الرشيد رجلًا يسمى سليمان الشمَّاخ، والذي نجح في اختراق الدولة الإدريسية الناشئة، إذ أظهر أنه منشق عن العباسيين، وكان خطيبًا مُفوَّهًا، ظلَّ لأشهر يدعو بدعوة الإمام إدريس، ويدافع عن آل البيت، ويتحدث عن مظالمهم، مما أكسبه ثقة إدريس، وارتفعت مكانته لديْه كثيرًا، حتى أصبح في أقرب الدوائر إليه. استغلَّ الشمَّاخ انشغال راشد في أحد الأيام، وأهدى للإمام إدريس عطرًا مسمومًا – وقيلَ سواك مسموم – فأصيب بما يشبه الغيبوبة، ثم تُوفيّ بعد يومٍ واحد، بينما فرَّ الشمَّاخ إلى سيده ببغداد لينال الجائزة.

عندما علم راشد بالخبر المفجع، وباختفاء الشمَّاخ، طارده مع بعض الفرسان، وكادوا يتقبَّضون عليه، لكنه فرَّ بأعجوبةٍ مُصابًا بيدٍ واحدة لقوة فرسه. عاد راشد إلى حاضرة الأدارسة وليلي، وأشرف على تكفين الإمام ودفنه، ثم جمع قادة البربر الموالين للدولة الإدريسية لبحث أمر الحكم بعد اغتيال الإمام، وكانت هذه الأحداث عام 177هـ.

أَيهَا الشَّيْخ الْمُبَارك، مَا لنا رَأْي إِلَّا مَا رَأَيْت فَإنَّك عندنَا عوضٌ من إِدْرِيس، تقوم بأمورنا كَمَا كَانَ إِدْرِيس يقوم بهَا، وَتصلي بِنَا، وتقضي بَيْننَا بِكِتَابأنا إبن مولاي إدريس الله وَسنة رَسُوله ..

—قادة البربر مخاطبين راشد بعد اغتيال الإمام إدريس
وافق زعماء البربر على اقتراح راشد بانتظار أن تضع جارية الإمام التي تسرى بها حملَها، فإن كان ولدًا، أصبح إماما بعد أبيه، وأن يرعاه راشد حتى يبلغ ويدير الأمور بنفسه، وكان لراشد احترامٌ واسعٌ لدى الجميع لمكانته العظيمة لدى الإمام المغدور.

جاءت الأقدار بالخبر السعيد بعد أسابيع، ووضعت الجارية البربرية كنزة مولودا ذكرا، اعتبره كلُّ من شاهده نسخةً من أبيه، فأسماه راشد إدريسَ على اسم أبيه. إلى جانب مهام راشد في إدارة الدولة الفتية وترسيخ دعائمها في مناطق سيطرتها، ركَّز راشد على أخطر المهام الموكلة إليه، وهي حماية وتنشئة الطفل إدريس ليستطيع أن ينهض بالمهمة الخطيرة التي يُؤهَّل لها في سنوات حياته اللاحقة.

لم يكد الطفل إدريس يُتم عامه الثامن، حتى كان راشد قد أتمَّ تحفيظه القرآن الكريم كاملًا، ثم شرع في تعليمه العلوم الشرعية، واللغة العربية وآدابها، والشعر العربي، وتواريخ الأمم والملوك المختلفة، إلى جانب تعليمه مبادئ الفنون القتالية والرماية، وأصبح عامًا بعد عام أقرب من اللحظة التي يستطيعُ فيها أن يتولَّى شؤون نفسه، وقيادة الدولة التي أسَّسَها أبوه

عام 188هـ، وبينما اقترب إدريس بن إدريس من إتمام عامه الحادي عشر، حدثت فاجعة كبرى كادت أن تزلزل الدولة الإدريسية، فقد تمكَّن والي تونس للعباسيين إبراهيم بن الأغلب من رشوة بعض البربر المحيطين براشد، فنجحوا في اغتياله على حين غرة، بعد أكثر من 15 عامًا من وصوله إلى المغرب لاجئًا، وقيامه بمهمة الوصاية على دولة الإمام إدريس لما يقارب عقدًا من الزمن.

التفَّ البربر وقادتهم من أصحاب الولاء للأدراسة حول الفتى إدريس بن إدريس، وبايعوه إمامًا في شهر ربيع الأول من عام 188هـ، بعد ما يقارب 20 يومًا من اغتيال مربيه راشد، وخطب إدريس الثاني يوم البيعة خطبةً عصماء رغم حداثة سنه، أكدت لجموع الحاضرين مدى ذكائه وتفرده، وكذلك روعة ما بذله راشد في تأديبه وتعليمه.

ويعتبر إدريس بن إدريس، هو المؤسس الثاني لدولة الأدارسة، فقد قويتْ الدولة في عهده كثيرًا، وانساب إليها الآلاف من المؤيدين من العرب والبربر، حتى ضاقت بهم العاصمة وليلي، فبنىَ عاصمةً جديدةً لدولته هي مدينة فاس التاريخية الشهيرة. وفي عام 202هـ، استضاف إدريس بن إدريس في فاس الآلاف من اللاجئين الأندلسيين من ثوار الرَّبَض الذين قمع حاكم الأندلس الحكم بن هشام الأموي ثورتهم، ودمرّ ربض قرطبة، ونفاهم منه. وشنَّ إدريس العديد من الحملات العسكرية القوية والتي ضمَّ خلالَها معظم أجزاء المغرب الأقصى إلى دولته، وأفسد محاولات الأغالبة ملوك تونس الموالين للعباسيين لاستهدافه ودولتِه، وتوفَّي عام 213هـ، ودولته تمتد من المحيط الأطلسي غربًا إلى الجزائر شرقًا.

الحنين يناديك بين جبال “زرهون” الخضراء ، والطرق الملتوية تتمايل بين عينيْك كأنها حسناء تتكسر في مِشيتها، والمسافات تعزف ألحانَ الوصول القريب، فتحبس ذاكرتك أنفاسها، وتغوص في عبقِ الأعوام الغابرة إلى اليوم المبارك الذي وصل فيه هذا الرجلُ من آل البيت، طريدا مع خادمِه الوفي، لتطأ قدمه الشريفة أرضاً عاث فيها الفساد ، فتقلبها بقدرةِ قادر وببركة ذلك النسب الطاهر إلى دولة متحضرة، وحضارة تهتز لها عروش دولة بني العباس ، التي تبعت هذا النسب الشريف في كل مكان، وأعملت فيهم السيف دون مراعاة لِحرمة نسبهم ولا لقدسية مكانتهم، ولم يسلَم من ذلك حتى سيدي وجدي المولى إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب – رضوان الله عليهم أجمعين – الذي نالته يد الإغتيال بسمّ قارورةِ عطر ، ليعيشَ طيباً ويموت طيبا بقارورةِ طِيب سنة 186هجرية ، عندما حلّت بركةُ النسب الشريفِ أرضَ هؤلاء البربَرِ الكرام ، وافقت مغرسا طيبا، وأرضا خِصبة، وقلوبا بحبّ آل البيت مُغرمة، فنبتت دولة آل البيت الطاهرة ، ونمى بينهم الوليدُ الجديد الذي أخذ كل صفاتِ أبيه : كلّ جمالِ أبيه، وكل حكمة أبيه، وأخذ كذلك اسم أبيه، فعاش بين البربرِ أخواله، وأحسن راشد مولى أبيه تربيته، فاعتلى عرش دولةِ أبيه وعمره 11 سنة، وأسس مدينةَ “فاس” وبنى دولة عظيمة أطاحت بكلِّ المذاهب المنحرفة، التي كانتْ تتخِذ من جبالِ الأطلس وما خَلفها من البلدان ملاذا لها من سيوف الحق ، ومهربا لها من ألسنةِ البرهان، فعششَ في المغرب الخوارج بكل ألوانِهم كالأزارقة والصفرية وغيرِهم، وتحولَ المغاربة من مذاهب متضاربة وعقائد متشربة بخرافات جبالِ الأطلس ومغاراتِها إلى المذهبِ المالكي، مذهبِ أهل المدينة المنورة التي خرج منها سيدي ومولاي جدي إدريس بن عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب زوج البتول السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 172.

إن بركة هذا النسب الطَّاهر، والتي وافقت أرضا خصبة، وقلوبا محبة، لا يدرِكُ المدركون مداه، ولا يعرف العارفون ما حصلَ من الرحماتِ بسبب هذا الرجل العظيم، الذي رباه أبوه عبدالله الكامل، ومن قبل ذلك رباه نسبه وأصله ودماء جده الإمام علي – رضي الله عنه – وجدته السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فحصلت البركة بوصولِه إلى أرض المغرب، وامتدت ليحكمَ بنو حمدون أحفاده الأندلسَ، ويحكمَ أحمدُ بنُ إدريس حفيده منطقةَ عسيرٍ جنوبِ المملكة، وينشر فيها الخير والعلم والنور، ويحكم حفيدُه الأمير عبدُالقادر الجزائري بلادَ الجزائر، ويقاوِم المستعمر الفرنسي فيها مقاومةً شديدة، ويحكم أحفادُه السنوسيون بلادَ ليبيا، وأما أحفادُه من أولياء الله الصالحين و العلماء والدعاة والفضلاء، وأحفاده من سائر الناسِ بأخلاقهم وسمتهم فعدد كبير لا يحصيهم إلا اللهُ – عز وجل .

إن كلّ مغربي ومغربية، لهو مدِين لهذا الرجل المبارك ؛ بما أنه بنى له هذه الدولة العظيمة، ووضعَ أساساتها الإسلامية ، وحارب فيها كل أنواعِ الخرافةِ والبدع والطائفية والمذهبية، فجعل المذهبَ واحدا في الفِقه والعقيدة والسلوك، مذهب الإمام مالك بن أنس، إمام دارِ الهِجرة، فألزم بهِ الناس، ومن يزعُم أن مالكًا لم يكن له مذهب عقائدي فإنه لا يعرف مالكاً إمامَ دارِ الهجرة.

أما بعد :

فإنّي أدعوكم إلى كتابِ الله وسنّة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإلى العدلِ في الرعية والقسم بالسويّة، ورفعِ المظالم، والأخذ بيدِ المظلوم، وإحياءِ السنَّة وإماتةِ البدعة، وإنفاذِ حكم الكتابِ على القريب والبعيد، واذكروا اللهَ في ملوكٍ غيروا، وللأمان خفروا، وعهد اللهِ وميثاقه نقضوا، ولبني بيتِه قتلوا، وأذكّركم اللهَ في أراملَ احتقرتْ، وحدودٍ عُطلت، وفي دماءٍ بغير حق سُفكت، فقد نبذوا الكتابَ والإسلام، فلم يبقَ من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآنِ إلا رسمه، واعلموا – عبادَ الله – أن مما أوجبَ اللهُ على أهلِ طاعته، المجاهَدةَ لأهلِ عداوتِه ومعصيتِه باليدِ وباللِّسان؛ فباللسانِ الدعاءُ إلى الله بالموعظةِ الحسنة والنَّصيحة، والحض على طاعة الله، والتوبة عن الذنوبِ بعد الإنابةِ والإقلاع، والنزوع عما يكرهه اللهَ، والتَّواصي بالحقِّ والصّدق، والصبر والرحمة والرفق، والتناهي عن معاصي اللهِ كلها، والتعليم والتقديم لمن استجاب للهِ ورسولِه حتى تنفذ بصائرهم وتكملَ، وتجتمعَ كلمتهم وتنتظم.

فإذا اجتمعَ منهم منْ يكون للفسادِ دافعا، وللظالمين مقاوما، وعلى البغي والعدوان قاهرا، أظهروا دعوتهم وندبوا العبادَ إلى طاعةِ ربهم، ودافعوا أهلَ الجور عن إرتكاب ما حرم اللهُ عليهم، وحالوا بينَ أهلِ المعاصي وبين العملِ بها، فإن في معصيةِ الله تلفا لمن ركبها، وإهلاكا لمن عمل بها.

ولا يؤيسنكم من علو الحق اضطهاده وقلة أنصاره، فإن فيما بدأ من وحدةِ النبي – صلى الله عليه وسلم- والأنبياءِ الداعين إلى الله قبلَه، وتكثيره إياهم بعد القلة، وإعزازهم بعد الذلةِ، دليلاً بينا وبرهانا واضحًا، قال الله – عزَّ وجل -: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [آل عمران: 123]، وقال تعالى: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40]،

فنصرَ الله نبيّه وكثر جندَه، وأظهر حزبَه، وأنجزَ وعدَه، جزاءً من اللهِ سبحانه، وثوابا لفضله وصبره وإيثاره طاعة ربه، ورأفتِه بعباده ورحمته، وحسنِ قيامه بالعدل والقسطِ في تربيتِهم، ومجاهدةِ أعدائهم وزهدِه فيهم، ورغبتِه فيما يريده اللهُ، ومواساتِه أصحابَه، وسعةِ أخلاقه، كما أدبه اللهُ وأمرَ العباد باتباعه، وسلوكِ سبيلِه، والاقتداء لهدايتِه واقتفاءِ أثره، فإذا فعلوا ذلك أنجز لهم ما وعدهم، كما قال – عز وجل -: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].

وقال تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
وقال: ?إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ? [النحل: 90].
وكما مدحهم وأثنى عليهم، كما يقول: ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ? [آل عمران: 110].
وقال عز وجل:? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ? [التوبة: 71].
وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأضافه إلى الإيمان والإقرار لمعرفته، وأمر بالجهاد عليه والدعاء إليه، قال تعالى: ?قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ?
[التوبة: 29].
وفرض قتال المعاندين على الحق والمعتدين عليه وعلى من آمن به وصدق بكتابه، حتى يعود إليه ويفيء، كما فرض قتال من كفر به وصد عنه حتى يؤمن به ويعترف بشرائعه، قال تعالى: ?وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ? [الحجرات: 9].

فهذا عهد الله إليكم وميثاقه عليكم، بالتعاون على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، فرضا من الله واجبا، وحكما لازما، فأين عن الله تذهبون؟ وأنى توفكون؟.

وقد خانت جبابرة في الآفاق شرقا وغربا، وأظهروا الفساد وامتلأت الأرض ظلما وجورا، فليس للناس ملجأ ولا لهم عند أعدائهم حسن رجاء، فعسى أن تكونوا – معاشر إخواننا من البربر – اليد الحاصدة للظلم والجور، وأنصار الكتاب والسنة، القائمين بحق المظلومين، من ذرية النبيئين، فكونوا عند الله بمنزلة من جاهد مع المرسلين، ونصر الله مع النبيئين.

واعلموا معشر البربر أني أتيتكم وأنا المظلوم الملهوف، الطريد الشريد، الخائف الموتور الذي كثر واتره، وقل ناصره، وقتل إخوته، وأبوه وجده وأهله، فأجيبوا داعي الله، فقد دعاكم إلى الله، فإن الله عز وجل يقول: ?وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء? [الأحقاف: 32].

أعاذنا الله وإياكم من الضلال، وهدانا وإياكم إلى سبيل الرشاد.

وأنا إدريس بن عبد الله، بن الحسن، بن الحسن، بن علي بن أبي طالب – عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورسول الله وعلي بن أبي طالب جداي، وحمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار في الجنة عماي، وخديجة الصديقة وفاطمة بنت أسد الشفيقة جدتاي، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت الحسين سيد ذراري النبيئين أمّاي، والحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله وسلم أبواي، ومحمد وإبراهيم ابنا عبد الله المهدي والزاكي أخواي.

هذه دعوتي العادلة غير الجائرة، فمن أجابني فله ما لي، وعليه ما علي، ومن أبا فحظه أخطاه، وسيرى ذلك عالم الغيب والشهادة، إني لم أسفك له دما ولا استحللت محرما ولا مالا، وأستشهدك يا أكبر الشاهدين، وأستشهد جبريل وميكائيل، أني أول من أجاب وأناب، فلبيك اللهم لبيك مزجي السحاب، وهازم الأحزاب، مسير الجيال سرابا بعد أن كانت صما صلابا، أسالك النصر لولد نبيك، إنك على كل شيء قدير، والسلام، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

فهذهِ خطبةٌ عظيمة تظهرُ لنا رجلاً عظيمًا يحمل رسالتَه العظيمةَ التي ورثها عن أجدادِه الكرام، وحَمَلها تدفعهُ الأقدار إلى أن غرسَها في منبت بعيد عن المدينةِ المنورة كل البعدِ، فتلقتها قبائلُ البربر الأوروبية بالترحيب، واستحقوا بذلك الثناءَ والشكر من كل مغربي ومن كل مسلم ما تعاقبت الأيام والليالي.

وهذا خطاب إدريس الأكبر إلى أهل مصر :
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فالحمد لله رب العالمين، لا شريك له الحي القيوم، والسلام على جميع المرسلين، ومن اتبعهم وآمن بهم أجمعين.
أيها الناس، إن الله بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وخصه بالرسالة، وحباه بالوحي، فصدع بأمر الله، وأثبت حجته: وأظهر دعوته.

وإن الله – جل ثناؤه – خصنا بولادته، وجعل فينا ميراثه، ووعده فينا وعد سيفي له به فقبضه إليه محمودا لا حجة لأحد على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين.
فخلفه الله جل ثناؤه بأحسن الخلافة، غذانا بنعمته صغارا وأكرمنا بطاعته كبارا، وجعلنا الدعاة إلى العدل، القائمين بالقسط، المجانبين للظلم ، ولم نمل – إذ وقع الجور – طرفة عين من نصحنا أمتنا، والدعاء إلى سبيل ربنا جل ثناؤه.
فكان مما خلفته أمته فينا أن سفكوا دماءنا، وانتهكوا حرمتنا، وأيتموا صغيرنا، وقتلوا كبيرنا، وأثكلوا نساءنا وحملونا على الخشب، وتهادوا رؤوسنا على الأطباق، فلم نكل ولم نضعف، بل نرى ذلك تحفة من ربنا – جل ثناؤه – وكرامة أكرمنا بها، فمضت بذلك الدهور، واشتملت عليه الأمور، وربى منا عليه الصغير، وهرم عليه الكبير»

الإدريسي الحسني العلوي الهاشمي القرشي
إبن الشيخ محمد شمس الدين ابوهارون بن هارون
الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد
كاتب ومحلل سياسي مصري
باحث في شؤون حركات الإسلام السياسي
كاتب ومؤرخ إسلامي

الإدريسي عبدالرحيم أبوالمكارم حماد الشريف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى