مقالات

علاء عبدالحسيب يكتب «اللحظات الأخيرة»: لغز مقتل «عم محمود»

“الموبايل اللي طلبته مقفول”.. إجابة واحد فقط كان يرددها هاتف «الحاجة عزيزة» كلما حاولت الاتصال بشقيقها الأكبر «محمود»، كانت كفيلة تلك العبارة أن تقذف الرعب في قلب السيدة المسنة الذي اقترب قطار عمرها من المحطة الستين.. تساؤل واحد كان يدور في ذهنها.. هل أُصُيب شقيقي بمكروه؟ .. للمرة الأولى ولأكثر من 12 ساعة متواصلة انقطع الاتصال بين الأخت وشقيقها؟..

 

القلق سيطر على جسد العجوز.. أسباب منطقية أدت إلى مشروعية هذا القلق.. فمن يعرف «عم محمود» عن قرب البالغ من العمر 70 عامًا، يعلم أنه يعيش بمفرده منذ وفاة الزوجة وزواج أبنائه الثلاثة.. يعرف جيدًا تفاصيل أمراض الشيخوخة التي أصابت هذا الكهل.. والظروف المأساوية التي يعيشها بمفرده وحيدًا داخل شقة الطابق الثالث بعقار العجوزة.

 

فوق المنضدة الخشبية الموجود بغرفة استقبال الشقة، ألقت «الحاجة عزيزة» هاتفها تنتظر بفارغ الصبر استقبال مكالمة من شقيقها.. ربما كانت تتوقع اعتذاره عن الرد.. أو ربما إبلاغها عدم قدرته على التواصل لظروف نومه أو عمله أو ربما لنفاذ شحن هاتفه.. استلقت العجوز على أريكتها الخشبية وراحت في نوم عميق، حتى همس في أذنها هاتف: “إلحقي أخوكي.. بيموت”.. فزعت العجوز من مكانها تهرول إلى غرفت نومها لارتداء ملابس الخروج.. فقد قررت التوجه إلى شقة شقيقها الأكبر بحي العجوزة التابع لمحافظة الجيزة.

 

كانت الرحلة صعبة جدًا قطعتها «الحاجة عزيزة» من منطقة بنها بمحافظة القليوبية إلى مقر سكن شقيقها.. لم تنتظر عودة زوجها من مكان عمله.. ولا حتى نجلها الذي يعيش في مدينة العاشر من رمضان، لتتوكأ على أي منهما في رحلتها الشاقة.. بل اختارت أن تخوض الرحلة بمفردها للاطمئنان عن شقيقها..رغم تحذيرات أسرتها وخوفهم على صحتها المتدهورة.

 

عقارب الساعة كانت تقترب من الثامنة مساءً.. القلق كان يزداد شيئًا فشيئًا كلما اقتربت «الحاجة عزيزة» من منزل شقيقها.. الفضول كاد يقتلها.. وأسئلة كثيرة كانت تتردد في ذهنها وهي على بعد خطوات من منزل «عم محمود»: هل ستقابل شقيقها هذه المرة؟.. هل ستحتسي معه الكوب المعهود من «القهوة السادة» في شرفة الشقة؟.. هل ستُرتب معه الأشياء المُبعثرة بالشقة كالمعتاد؟..

 

سرعان ما تبخرت كل هذه الأمنيات، وأصبحت ماضي أليم لحظة وصول السيدة مسكن شقيقها.. فقد عثرت عليه مشنوقًا بقطعة قماش وُملقى في غرفة الاستقبال.. إنها الفاجعة الكبرى التي لم يتخيلها أحد.. فمن يتوقع أن تنتهي قصة حياة الضحية بهذا الشكل؟.. ومن يتخيل أن يكون المجني عليه هدفًا لمجرم قاتل لأي دافع من الدوافع؟.. فهو ليس مطمعًا للصوص، ولا خصمًا في جريمة شرف أو ثأر أو إرث.. ظروفه المعيشية البسيطة كانت كفيلة أن تؤكد ذلك.. وتستبعد كل هذه الاحتمالات.

 

صدمة كبيرة أفقدت السيدة المسنة القدرة علي الكلام.. فهي أصبحت عاجزة حتى عن البكاء من هول الصدمة.. من قتل شقيقها؟.. وما سر مقتله بهذه الوحشية؟.. استجمعت العجوز قواها واستطاعت بصعوبة شديدة التوجه إلى أحد جيران شقيقها، ثم طرقت عليه الباب: «ألحقني يابني .. عمك محمود اتقتل».. الخبر كان صادمًا على الأهل والجيران والأصدقاء وكل من يعرف المجني عليه.. ذهول شديد أرهق تفكير الجميع، وأصاب البعض منهم بالإعياء بحثًا عن دوافع ارتكاب الجريمة..

 

نظرات اللوم كانت تملأ وجوه كل الحاضرين بمسرح الجريمة، تتهم الشقيقة الصغرى بالتقصير في حق العجوز، بسبب تركه بمفرده بين جدران الشقة، مهدد الموت المحقق إن لم يكن من الوحدة القاتلة فمن المرض المستشري في جسده.

 

“مصابيح شقته كانت مطفئه.. طرقت الباب مرارًا وتكرارًا لم يُجبني.. ناديت كثيرًا بأعلى صوتي على شقيقي لأن يفتح الباب لكنه لم يرد”.. بدأت الشقيقة الصغرى تروي لضابط الشرطة تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة شقيقها.. لم تتطرق أبدًا إلى اتهام أحد بقتله في محضر الشرطة.. تساؤلات عديدة كانت ضمن المعلومات التي بدأ فريق من رجال مباحث العجوزة في جمعها والتوصل إليها.. لقد أكدت المؤشرات الأولية أن جريمة قتل المجني عليه كانت بدافع السرقة وليس الانتقام.. طبقا لتقرير المعاينة الذي أشار إلى وجود بصمات بمداخل ومخارج الشقة وغياب بعض محتوياتها.

 

“فتاة طويلة القامة تبدو في العشرين من عمرها.. كانت تسير بخطى سريعة خارج منزل المجني عليه.. ترتدي عباءة سوداء وطرحة زرقاء اللون على الرأس.. لحظات وتبعها شاب وفتاة من نفس ذات العقار يسيران بنفس الخطى.. يحملان بحوزتهما متعلقات داخل جوال”.. من هؤلاء الذين أظهرتهم كاميرات المراقبة؟.. وهل هما من سكان العقار الذي يقطن به الضحية أم غرباء؟..

 

لقد كشفت معلومات رجال المباحث أن الفتاة العشرينية كانت تساعد من حين لآخر الضحية في أعمال المنزل مقابل أجر مالي.. وأن ترددها في هذا التوقيت كان مُريبًا.. لقد قاد ظهور الفتاة في كاميرات المراقبة رجال الشرطة إلى كشف لغز جريمة شقة العجوزة.. جبروت الفتاة قد وصل بها لحد قتل الضحية.. بعدما اتفقت مع عشيقها وصديقتها على تنفيذ مخطط السرقة.. لاعتقادهم أن الضحية يحتفظ بكنز داخل منزله.

 

اصطحبت الفتاة المجرمة صديقتها يوم الواقعة بحجة مساعدتها في أعباء العمل بشقة العجوز.. اتصلت بعشيقها الشاب البالغ من العمر ٢٥ عامًا للحضور وتنفيذ مخططهم الشيطاني.. قتلوا الضحية فور استشعاره مخطط السرقة داخل مسكنه.. خنقوه بقطعة قماش حتى لفظ أنفاسه الأخيرة..

 

شباك الحرام لم تصطاد سوى شاشة تلفاز و150 جنيهًا.. اكتشفوا أن رحلتهم في البحث عن الكنز فشلت.. دبرت الفتاة الجريمة ضد رجل كان صاحب فضل عليها.. حصد الموت نهاية رحلة حياة كانت مليئة بالعطف والعطاء .. قتل الشر الخير وراح العجوز ضحية غدر الأشرار والوحدة القاتلة.. جريمة بشعة تطرح تساؤلًا مهما: لماذا انتزعت الرحمة من قلوب الأبناء تجاه آبائهم؟.. لماذا يترك الأبناء الآباء دون رعاية؟ .. أين البر بالوالدين؟ ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى