مقالات

بعد مأساة كربلاء ورحلة الدم والحزن والسبي .. عودة الركب إلى المدينة واستمراريه السيدة زينب والإمام علي السجاد في تحمل الرسالة

الكاتب والمؤرخ الإسلامي

قلم وصوت ومحام آل البيت

الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد

بعد إنتهاء معركة كربلاء المقدسة واستشهاد عتره المصطفى صلى الله عليه وسلم الإمام الحسين وأهله وأصحابه وعدم مراعاة حرمة بيت النبوة وسبي آل البيت إلى الكوفة ثم إلى دمشق تم تجهيز الأسرى من آل البيت عليهم السلام إلى المدينة

أصبح الوجه كظيما… فالسبايا حُرروا لكنهم يمشون تتبعهم عيون الظالمين….والمصائب لم تقف فأخذت تحنوا عليهم في كل حين…

فالموت أخذ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء الإمام الحسين وأهله وأصحابه، وقلب أخته عليه مجفل وحزين….مصائب حلت بين يوم طف…. وسبي وهاهم الآن الى مدينة جدهم عائدين….قلوبهم حميت بنار فراق أجساد دفنت بلا رؤوس وبلا غسل وتكفين…

أيعقل ماذا يحل بهم وهم عترة وسلالة خير الوصيين…

انطلقوا للمسير وتملأهم ذكريات ستظل معهم ولن تمحوها السنون…

لقد نجح إعلام الركب الحسيني في أداء واجبهم الرسالي في الشام ، وأصبحت الخطب التي ألقاها ال البيت عليهم السلام حديث الأندية والمجالس ، وعرف أهل الشام لؤم يزيد لعنه الله وخبثه، وصار المجتمع الشامي كالحمم تغلي على الدولة الغاشمة، وخشي يزيد لعنه الله وقوع الفتن واضطراب الرأي العام وخروج الأمر من يده ، فلم يكن أحد من الناس في جميع الآفاق راضياً بفعله ، ففكر بجدية في طريق للخلاص من مشكلة وجود آل البيت عليهم السلام في الشام ، و عرض يزيد الأموال على السيدة أم كلثوم قائلاً : “يا أم كلثوم، خذوا هذا المال عوض ما أصابكم”.

فأجابته عليها السلام: “يا يزيد ، ما أقل حياءك وأصلب جهلك؟ أتقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم!”.

ثم دعا بالإمام زين العابدين عليه السلام وقال له: “إن أحببت أن تقيم عندنا فنصل رحمك ونعرف لك حقك ، وإن أحببت أن أردك إلى بلادك”.

فقال الإمام زين العابدين عليه السلام: “بل تردني إلى بلادي..”

فأمر يزيد النعمان بن بشير بتجهيز الأسارى بما يصلحهم ، وطلب إليه أن يبعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً وصالحاً ليسير بهم إلى المدينة.

فسير معهم محرز بن حريث الكلبي، وهو من أفاضل أهل الشام ، فكان يساير الركب وخيله التي معهم ، فيكون الحريم قدام بحيث إنهم لا يفوتون ، فإذا نزلوا تنحى عنهم ناحية هو وأصحابه ، وكانوا حولهم كهيئة الحرس ، وكان يسألهم عن أحوالهم ويتلطف بهم في جميع أمورهم ، ولا يشق عليهم في مسيرهم، إلى أن أدخلوا المدينة.

ومن الغريب جداً أن يقول أحد أن يقوم يزيد لعنه الله بإرسال هؤلاء لأجل المحافظة عليهم فحسب، وإن كان هو الظاهر المتراءى من القضية، ولكن الواقع هو المحافظة عليهم أولاً، والسيطرة على الأوضاع ثانياً، والثاني أولى بالمقصود، فمن الطبيعي أن يخاف يزيد لعنه الله حصول التمرد والعصيان عليه في بعض البلدان الواقعة في المسير، وقد راعت السلطة ذلك بالبعث إلى المدينة واستقدام عدة من ذوي السنّ من موالي بني هاشم وموالي بني علي من أجل مسايرتهم للركب.

وكان يوم خروج الركب الحسيني من الشام في العشرين من شهر صفر، وبذلك تكون مدة بقائهم في الشام عشرين يوماً.

بقية الركب الحسيني في كربلاء

لمّا رجعت نساء الإمام الحسين عليه السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق قلن للدليل: “بحق معبودك أن تدلنا على طريق كربلاء”، ففعل ذلك. فأخذوا بإقامة المأتم في أرض الطف لثلاثة أيام ، وبذلك صارت سُنة حسنة استمرت من ذلك الحين إلى الآن.

وأما المجلس الذي أقاموه في كربلاء ، وقد حضره جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجال من آل الرسول صلى الله عليه واله الذين أتوا لزيارة قبر الإمام عليه السلام، فلم يكن عند ورودهم عليه السلام من الشام، بل في فترة زمنية أخرى، حيث إنهم كانوا يداومون على الزيارة.

وإن أول من زار الإمام الحسين عليه السلام هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رضوان الله عليه الذي رحل من المدينة المنورة إلى كربلاء لأجل زيارة سيد الشهداء عليه السلام، وقد ورد إلى كربلاء في اليوم العشرين من شهر صفر أي في الأربعين الأولى للإمام الحسين عليه السلام مع عطية بن سعد بن جنادة العوفي ، أي في اليوم نفسه الذي خرج فيه الركب الحُسيني من الشام، وبذلك يستحيل لقاؤهم في كربلاء في نفس الزيارة، ولم يكن رجوع الركب الحسيني إلى كربلاء في الأربعين الأولى ولا الثانية بل في الفترة الواقعة بينهما ، ثم إن أهل البيت عليهم السلام تركوا كربلاء قاصدين المدينة،

بعدما أقاموا العزاء على سيد الشهداء عليه السلام.

مدينة جدنا لا تقبلينا
فبالحسرات والأحزان جينا

ألا فأخبر رسول الله عنا
بأنا قد فجعنا في أبينا

وأن رجالنا بالطف صرعى‏
بلا رؤوس وقد ذبحوا البنين‏

المدينة قبل وصول خبر مقتل الإمام الحسين عليه السلام

إن بعض أقرباء وأصحاب النبي صلى الله عليه وآله كانوا يعلمون بمصير الإمام الحسين عليه السلام إجمالاً، وذلك عبر ما سمعوه عن الرسول صلى الله عليه وآله مباشرة أو بالواسطة، فإنهم وإن فاتهم الفوز العظيم، أو قصروا في سبيل نصرة إبن بنت نبيهم عليه السلام لم يمنعهم ذلك أن يعيشوا في حالة من الخوف والقلق وترقب الأحداث.

تربة الإمام الحسين عليه السلام

عن أم سلمة أنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه واله جالساً ذات يوم في بيتي”، فقال: “لا يدخل عليّ‏َ أحد، فانتظرت فدخل الحسين عليه السلام، فسمعتُ نشيج رسول الله صلى الله عليه واله يبكي، فاطّلعت فإذا حسين في حجره، والنبي يمسح جيبنه وهو يبكي”، فقلت: “والله ما علمت حين دخل”، فقال: “إن جبرائيل عليه السلام كان معنا في البيت”، فقال: “تحّبه؟” قلت: “أما من الدنيا فنعم”، قال: “إن أمتك ستقتل هذا بأرض يُقال لها كربلاء، فتناول جبرائيل عليه السلام من تربتها فأراها النبي صلى الله عليه وآله”.

ولم تكن السيدة أم سلمة هي الوحيدة في نقل أخبار إتيان جبرائيل بتربة الإمام الحسين عليه السلام إلى جده الرسول الأعظم صلى الله عليه واله، بل هناك عدة أشخاص رووا ذلك على رأسهم أمير المؤمنين علي عليه السلام:

عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: دخلت على رسول الله صلى الله عليه واله ذات يوم وعيناه تفيضان، فقلت: “هل أغضبك أحد يا رسول الله صلى الله عليه واله؟ ما لي أرى عينيك مفيضتين؟” قال: “قام من عندي جبريل فأخبرني أن أمتي تقتل الحسين ابني”، ثم قال: “هل لك أن أريك من تربته”، قلت: “نعم، فمدّ يده فقبض قبضة، فلما رأيتها لم أملك عينيّ أن فاضتا”.

أبو بكر وعمر وحذيفة وعمار وأبو ذر: خرج رسول الله صلى الله عليه واله إلى أصحابه وهو يبكي، فقالوا: “ما يبكيك يا رسول الله؟” فقال صلى الله عليه واله: “أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل من بعدي بأرض الطف وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه”.

أم سلمة تعرف باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام‏

لقد قامت زوجة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله السيدة أم سلمى التي حصلت على شرف العلم وأصبحت موضع سرّ النبي صلى الله عليه واله، بدورها العظيم تجاه هذه المأساة، إذ استودعها النبي صلى الله عليه واله تربة من تراب كربلاء قبل مقتل الإمام الحسين عليه السلام بسنوات عديدة، وقال صلى الله عليه واله لها: “اجعلي هذه التربة في قارورة، ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين صلى الله عليه وآله “، ولقد احتفظت بها، وصار احمرارها علامة تحقق المأساة.

وكانت أم سلمة تحمل قارورتين من تراب الإمام الحسين عليه السلام، إحداهما سلّمها إليها رسول الله صلى الله عليه وآله ، والأخرى تسلمتها من يدي الإمام الحسين عليه السلام قبيل مغادرته المدينة، وقال لها: “… فإذا فاضتا دماً فاعلمي أني قد قتلت”.

ويبدو أن السيدة أم سلمة قد خلطت التربة التي أعطاها إياها الإمام الحسين عليه السلام مع التربة التي كانت عندها، ذلك أنها بعد رؤيتها رسول الله صلى الله عليه وآله في منامها وعلى رأسه ولحيته التراب ، فسألته: “ما لكَ يا رسول الله صلى الله عليه وآله ؟”.

فأجابها صلى الله عليه واله: “شهدت قتل الحسين عليه السلام انفاً”.

فاستيقظت من منامها فزعة وفتحت قارورة واحدة فإذا هي تفيض دماً.

وكانت أم سلمة أول صارخة صرخت في المدينة، فتوجه أهل المدينة رجالاً ونساءً نحو بيتها، وإذ بها تصيح: “واحسيناه! وا ابن رسول الله”، فتصارخت النساء من كل ناحية حتى ارتفعت المدينة بالرجّة التي ما سمع بمثلها قط.

عبدالله بن عباس يَعلم بإستشهاد الإمام الحسين عليه السلام‏

كان إبن عباس من الذين يعلمون بمصير الإمام عليه السلام فمن الطبيعي أن يكون ممن يترقب خبر استشهاده، وقد روى ابن عباس: “رأيت النبي صلى الله عليه واله فيما يرى النائم بنصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم”، فقلت: “بأبي أنتَ وأمي يا رسول الله، ما هذا؟” قال: “هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم”.

وصول مبعوث ابن زياد إلى المدينة المنورة

أنفذ اللعين ابن زياد رسوله عبد الملك بن أبي الحارث السلمي إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة “مبشراً” بقتل الحسين عليه السلام.

فدخل على عمرو بن سعيد، فقال عمرو: “ما وراءك؟”.
قال عبد الملك: “ما سرّ الأمير. قُتل الحسين بن علي”.
فقال عمرو “لعنه الله”: “هذه واعية بواعية عثمان بن عفان!”.
فصعد عمرو بن سعيد إلى المنبر وخطب بالناس وأعلمهم ذلك، فعظمت واعية بني هاشم، وأقاموا سنن المصائب والمأتم.

خطبة عمرو بن سعيد بن العاص‏

خرج عمرو بن سعيد إلى المنبر، فخطب بالناس، ثم ذكر حسيناً وما كان من أمره، وقال: “إنها لدمة بلدمة، وصدمة بصدمة، وموعظة بعد موعظة “حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُر” ، والله لوددت أن رأسه في بدنه، وروحه في جسده أحيان كان يسبنا ونمدحه، ويقطعنا ونصله كعادتنا وعادته، ولم يكن من أمره ما كان، ولكن كيف نصنع بمن سلّ سيفه يريد قتلنا؟ إلا أن ندفع عن أنفسنا”.

فقام إليه عبد الله بن السائب فقال: “أما لو كانت فاطمة حية فرأت رأس الحسين لبكت عليه”، فجبهه عمرو بن سعيد، وقال: “أحق بفاطمة منك! أبوها! وزوجها أخونا! وابنها ابننا! أما لو كانت فاطمة حية لبكت عينها، وحزن كبدها، ولكن ما لامت من قتله، ودفع عن نفسه”.

إن المتأمل في هذه الخطبة والعارف بأجوائها لا يستغرب منها، إذ يعلم أنها ألقيت في ظل أجواء مضطربة بعد وصول الخبر إلى المدينة، ووصول الرأس الشريف إليها، ولذلك ترى هذا الحاقد الذي كان يبغض أمير المؤمنين علياً عليه السلام أشد البغض، يُظهر التراجع في كلامه ويظهر نفسه في موقف المدافع والمتأثر.

دور أم سلمة بعد نعي الإمام الحسين عليه السلام‏

بعد وصول خبر نعي الإمام الحسين عليه السلام، كان لأم سلمة مواقف صريحة وجريئة تجاه هذه الجريمة النكراء، فهي لما بلغها قتله، قالت: ” فعلوا؟ ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً”، ثم وقعت مغشياً عليها.

ومع أن أم سلمة كانت تعيش في ظروف صعبة جداً، فقد وضحت أن القوم أجرموا بحق آخر من بقي من أصحاب الكساء، وهو الطاهر إبن الطاهر سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، ولم تكتف هذه المرأة الجليلة بهذا الحد من إبراز الموقف، بل أعلنت الحداد ولبست السواد علناً وفي الملأ العام من الناس، وفي مسجد رسول الله.

موقف سيدنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب‏ عليهما السلام

كان لعبد الله بن جعفر عليهما السلام مواقف مشرفة بعد وقوع مأساة كربلاء، واستشهاد ولديه وهما في ركاب خالهما أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

ومما يمكن أن يستند إليه في توجيه عدم حضوره في كربلاء ما جاء في زيارة الناحية المقدسة المنسوبة للإمام الحجة عج ، حيث قال في حق ولده: “السلام على محمد بن عبد الله بن جعفر الشاهد مكان أبيه”، فلعل عذراً لم نعلمه منعه من الحضور.

ولما بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين عليه السلام، دخل عليه بعض مواليه والناس يعزّونه، فقال له أبا اللسلاس: “هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين”، فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثم قال: “يا ابن اللخناء، أللحسين تقول هذا؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لما يسخي بنفسي عنهما ويهون عليّ المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له صابرين معه”.

ثم أقبل على جلسائه فقال: “الحمد لله عز وجل عليّ بمصرع الحسين إن لا يكن استه يدي فقد اساه ولداي”.

دور بنات عقيل‏ عليهما السلام

كان لبنات عقيل دور مهم في إثارة مشاعر الناس وإنقلابهم نفسياً بعد مقتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأصحابه، فعندما أرسل يزيد بن معاوية مبعوثيه إلى المدينة ليخبرا بقتل الإمام الحسين عليه السلام سمعت بذلك أسماء بنت عقيل بن أبي طالب، فخرجت في جماعة من نسائها، حتى انتهت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه واله فلاذت به، وشهقت عنده، ثم التفتت إلى المهاجرين والأنصار وهي تقول:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم‏
يوم الحساب وصدق القول مسموع
خذلتم عترتي أو كنت غيباً
والحق عند ولي الأمر مجموع‏

فلم يُر باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم.

ثم خرجت زينب بنت عقيل في نساء من قومها حائرات، وهي تقول: “وا حسيناه، وا إخوتاه، وا أهلاه، وا محمداه”، ثم قالت:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم‏
ماذا فعلتم وأنتم اخر الأمم‏

بأهل بيتي وأنصاري أما لكم‏
عهدٌ كريم أما توفون بالذمم‏

عودة بقية الركب الحسيني إلى المدينة المنورة

إنهم على مقربة من المدينة.. مدينة جدهم.. ومهاجر أبيهم.. ومأوى أمهم.. مسقط رؤوسهم، وموطن أحبتهم، ما أصعب الدخول إليها وهم على هذه الحالة. لقد خرجوا مع الإمام الحسين عليه السلام واليوم رجعوا بلا الحسين وأهله عليهما السلام…

ومن الطبيعي أن تأخذ المسيرة منحىً عاطفياً أكثر من أي شي‏ء، فلقد عاش أهل المدينة مع الإمام الحسين عليه السلام وتعودوا عليه، ورأوا في وجوده وجود جده بعلمه وهيبته وخُلقه وشجاعته وغيرته وبكل مكارم الأخلاق، واليوم يسمعون بوصول أهل بيته قرب موطنه، أهل بيت خرجوا معه ورجعوا وحدهم، ولكنهم يحملون رسالته.

ومن هذا المنطلق، نرى أن المسيرة لم تكتف بالتزام الظاهر العاطفي فحسب، بل إنها عنيت بالجانب المبدئي والمنهجي أكثر، واستمرت على ذلك في أشكال مختلفة، سواء كان ذلك على شكل إقامة العزاء والمأتم، أو استمرار البكاء، أو إلقاء الخطب، أو بث الأدعية العالية المضامين أو غير ذلك. والغاية من كل ذلك هي تنوير الأفكار وإيقاظ المجتمع من السبات العميق الذي استولى على جميع أفراده، ما خلا من تمسك بالقران والعترة.

الإمام زين العابدين عليه السلام يوفد بشير بن حذلم‏

المتتبع لمسيرة الركب الطاهر من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، يدرك أن الإمام عليه السلام كان هو المسيطر على الأوضاع،

وكان يخرق الإعلام المشوّه ويقلب الأمر على الحكام، ويبيّن الحقائق المستورة، فكان نهجه وسلوكه نهج الفعل والتأثير، لا الانفعال والتأثر.

ومن هنا نفهم سر إيفاد الإمام زين العابدين عليه السلام لبشير بن حذلم الشاعر إلى المدينة، فلقد تمكن بصفته رسول الإمام عليه السلام، وبكونه شاعراً قوياً ومؤثراً عاطفياً،من التأثير في المجتمع حتى كاد أن يقلب الوضع في المدينة، بحيث تحرك أهل المدينة، بما فيها من الرجال والنساء والكبار والصغار، إلى خارجها لاستقبال ال بيت رسول الله صلى الله عليه واله،وقد استثمر الإمام عليه السلام هذه الفرصة.

قال بشير بن حذلم: فلما قربنا من المدينة، نزل الإمام علي بن الحسين عليه السلام، فحط رحاله وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، وقال: “يا بشير، رحم الله أباك، لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شي‏ء منه؟”، قلتُ: “بلى يا ابن رسول الله صلى الله عليه واله، إني لشاعر”، قال عليه السلام: “فادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله عليه السلام”.

قال بشير: فركبتُ فرسي وركضت حتى دخلتها، فلما بلغت مسجد النبي صلى الله عليه واله رفعتُ صوتي بالبكاء وأنشأتُ أقول:

يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بها
قتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاءَ مضرّجٌ‏
والرأس منه على القناة يُدارُ

هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا أعرّفكم مكانه.

فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخشمة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم يرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله، وخرج أهل المدينة جميعهم لاستقبال بقية الركب الحسيني.

خطبة الإمام السجاد عليه السلام على مشارف مدينة جده‏

كان الإمام زين العابدين عليه السلام داخل الخيمة، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسي، فوضعه له، وجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين الجواري والنساء، والناس من كل ناحية يعزونه، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة، فأومأ بيده أن اسكتوا، فسكنت فورتهم، فقال عليه السلام: “الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارى الخلائق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفواجع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيها القوم، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس، فأي رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن أنهما لها؟

فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقربون، وأهل السماوات أجمعون.

أيها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذمومين شاسعين عن الأمصار، كأننا أولاد ترك أو كابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في ابائنا الأولين، إن هذا إلا اختلاق.

والله، لو أن النبي صلى الله عليه واله تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا، إنه عزيز ذو انتقام”.

ثم قام الإمام زين العابدين عليه السلام ومشى إلى المدينة ليدخلها.

ملاحظات حول الخطبة

1 التركيز على حمد الله وثنائه المستمر وعلى كل حال وفي كل الظروف.

2 بيان ما وقع في عالم الكون، وأن العوالم بما فيها البحار والسماوات والأرض والأشجار والحيتان والملائكة وأهل السماوات بكت على الحسين عليه السلام…

3 بيان عمق ما ارتكبوه من الفاجعة، بحيث لم يمكن أن يقع أبشع منها، وأنه لم يعهد في التاريخ، حتى لو أن النبي صلى الله عليه واله كان أوصاهم بذلك، فرضاً، لما زادوا على ما فعلوا بهم…

4 إيقاظ الناس وتوجيههم على ذلك بلزوم اتخاذ الموقف، في قوله عليه السلام: أي قلب لا ينصدع لقتله؟…

بقية الركب الحسيني في مدينة الرسول صلى الله عليه وآله

لما دخل حرم الإمام الحسين عليه السلام المدينة عجّت نساء بني هاشم، وصاحت المدينة صيحةً واحدة، ودخل الإمام زين العابدين عليه السلام وجماعته دار الرسول صلى الله عليه واله، فراها مقفرة الطلول، خالية من سكانها،خالية بأحزانها.

أما السيدة زينب عليها السلام فأخذت بعضادتي باب المسجد، ونادت: “يا جداه، إني ناعية إليك أخي الحسين”، وهي مع ذلك لا تجف لها عبرة، ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلما نظرت إلى علي بن الحسين تجدّد حزنها وزاد وجعها.

ولبست نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين عليه السلام يعمل لهن الطعام للمأتم.

وعن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام انه قال: “نيح على الحسين بن علي سنة كاملة كل يوم وليلة، وثلاث سنين من اليو الذي أصيب فيه..”.

وهذا الخبر يدل على مدى حزن الهاشميين واهتمامهم بعزاء سيد الشهداء عليه السلام، بحيث حزنوا كأشد ما يكون الحزن واللوعة، واستمروا على ذلك، إبقاءً لذكر أبي عبد الله عليه السلام واستمراراً لنهجه.

مكافأة الحرس‏

لقد شكرت العلويات كل الذين قاموا برعايتهن من الشام حتى المدينة، وكان الرجل الحارس يسألهم عن حالهن ويتلطف بهن في جميع أمورهن، ولا يشق عليهن في مسيرهن إلى أن دخلن المدينة، فقالت فاطمة بنت علي لأختها السيدة زينب عليها السلام: “لقد أحسن هذا الرجل إلينا، فهل لك أن تصليه بشي‏ء”، فقالت عليها السلام: “والله ما معنا ما نصله به إلا ما كان من هذا الحلي”. فقالت: “فافعلي”.

فأخرجا له سوارين ودملجين وبعثا بهما إليه فردهما، وقال: “لو كان الذي صنعته رغبة في الدنيا لكان في هذا مقنع بزيادة كثيرة، ولكني والله ما فعلته إلا لله، ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه واله”.

وأبى الإمام زين العابدين عليه السلام إلا مكافأته، فبعد رفضه للحلي، أخذ الإمام عليه السلام حجراً أسود أصم فطبعه بخاتمه، ثم قال: “خذه وسل كل حاجة لك منه فوالله الذي بعث محمداً بالحق، لقد كنتُ أسأله الضوء في البيت فينسرج في الظلماء، وأضعه على الأقفال فتفتح لي، واخذه بين يدي السلاطين فلا أرى إلا ما أحب”.

هدم بيوت تتعلق بأسرة الإمام الحسين عليه السلام‏

مما يكشف القناع عن سياسة القمع الأموي، ما ارتكبوه من هدم لبعض البيوت التي تتعلق بأسرة أبي عبد الله عليه السلام، وهذا تأييد اخر لما ذكرناه مراراً.

رثاء أم البنين زوجة أمير المؤمنين علي عليه السلام

أقامت أم البنين زوجة أمير المؤمنين عليه السلام العزاء على الإمام الحسين عليه السلام، واجتمع عندها نساء بني هاشم ليندبن الإمام عليه السلام وأهل بيته.

ويُستفاد قوة إيمانها، أن بشراً كلما نعى إليها بعد وروده المدينة أحداً من أولادها الأربعة قالت ما معناه أخبرني عن الإمام الحسين عليه السلام، فلما نعى إليها الأربعة قالت: “قد قطعت أنياط قلبي، أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله عليه السلام”.

وكانت أم البنين تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها، وهي تحمل عبيدالله بن العباس عليه السلام، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها،
ومن أقولها:

لا تدعوني ويك أم البنين‏
تذكريني بليوث العرين‏

كانت بنون لي لا أدعى بهم‏
قد واصلوا الموت بقطع الوتين‏

حزن الرباب بنت امرى القيس وبكاؤها ورثاؤها

رافقت الرباب زوجة الإمام الحسين عليه السلام الركب إلى كربلاء، وهي أم سكينة وعبد الله الرضيع، وحُملت إلى الشام فيمن حملن من أهله عليه السلام، ثم عادت إلى المدينة، فخطبها الأشراف من قريش، فقالت: ما كنتُ لأتخذ حميّاً بعد رسول الله صلى الله عليه واله.

وبقيت بعد الإمام الحسين عليه السلام سنة لم يظلها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً.

استمرار بكاء الإمام زين العابدين عليه السلام وحزنه‏

عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال: “البكاؤون خمسة: آدم ، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله ، وعلي بن الحسين عليه السلام، فأمّا آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له “قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِين” ، وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن، فقالوا: إما أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل، وإما أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار، فصالحهم على واحد منهما، وأما فاطمة بنت محمد صلى الله عليه واله فبكت على رسول الله صلى الله عليه واله حتى تأذى بها أهل المدينة، وقالوا لها: قد اذيتنا بكثرة بكائك، فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء، فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف، وأما علي بن الحسين عليه السلام فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى، حتى قال له مولى له : جعلت فداك يا ابن رسول الله، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إني أذكر مصرع بني فاطمة إلا وخنقتني العبرة”.

وقال أبو حمزة الثمالي: سُئل الإمام زين العابدين عليه السلام عن كثرة بكائه، فقال عليه السلام: “إن يعقوب فقد سبطاً من أولاده فبكى عليه حتى ابيضّت عيناه وابنه حيّ في الدنيا ولم يعلم أنه مات، وقد نظرت إلى أبي وسبعة عشر من أهل بيتي قتلوا في ساعة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي..”.

أم سلمة ترد الأمانات إلى أهلها

لمّا سار الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق، استودع أم سلمة الكتب والوصية، ثم أحضر ولده الإمام زين العابدين عليه السلام وكان عليلاً، فأوصى إليه بالاسم الأعظم ومواريث الأنبياء وعرّفه أنه قد دفع العلوم والصحف والسلاح إلى السيدة أم سلمة وأمرها أن تدفع جميع ذلك إليه.

وهذا أيضاً مما يدل على مدى جلالة السيدة أم سلمة وعظمتها، بحيث إنها كانت مؤتمنة عند الرسول صلى الله عليه واله واله عليه السلام حتى اخر أيام حياتها، والأشياء التي حفظتها هي الأشياء التي لا بد من أن تكون عند حجة الله في الأرض في كل زمان ، وعندما رجع الإمام زين العابدين عليه السلام إلى المدينة دفعت الأمانة إليه.

دور الإمام زين العابدين عليه السلام في استمرار الرسالة

إن الإمام عليه السلام قد أدى في دوره أحسن ما يمكن بالنسبة إلى استمرار الرسالة الحسينية، وتثبيت دعائهما وثمرتها وتربية النفوس عليها، وذلك بعدة أمور:

1 تثبيت أمر الإمامة: إن السلطة الغاشمة أرادت أن ترى انخماد كل شي‏ء بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام، ولكن الإمام زين العابدين عليه السلام بدوره أثبت أن الإمامة أمر خارج عن نطاق إرادة البشر، وأنها أمر الهي يلازمها لطف رباني وعناية ربانية مخصوصة.

2 تربية الناس: لقد قام الإمام بتربية الناس عبر كلماته ومواعظه، التي ربما كانت تلقى في يوم الجمعة وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه واله، ومعلوم أن حضور الناس في يوم الجمعة يختلف عمّا سواه.

3 بث المعارف الالهية: لما كان الإمام عليه السلام يعيش في ظروف سياسية شاقة جداً، فمن الطبيعي أنه ما كان يسعه أن يحضر الساحة بالنحو المطلوب، ولذلك نرى أنه قدّم ثروة علمية عظيمة في قالب الدعاء، وهو يعالج أموراً عديدة في جوانب مختلفة كالمجال التربوي والعرفاني والإجتماعي والسياسي…

4 الإمام عليه السلام ومسألة أخذ الثأر من قتلة الإمام الحسين عليه السلام: هناك العديد من القرائن والشواهد على قيادة الإمام عليه السلام مسألة أخذ ثأر قتلة الإمام الحسين عليه السلام، وقال القاضي نعمان: كان علي بن الحسين عليه السلام يدعو في كل يوم وليلة أن يريه الله قاتل أبيه مقتولاً، فلما قتل المختار قتلة الحسين عليه السلام بعث برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمرو بن سعد مع رسول من قبله إلى علي بن الحسين عليه السلام، فلما رأى علي بن الحسين رأس عبيد الله خرّ ساجداً وقال: “الحمد للّه الذي أجاب دعائي وبلغني ثأري من قتلة أبي، ودعا للمختار وجزاه خيراً”.

ردود فعل السلطة على دور الإمام زين العابدين‏

1 إيذاؤهم له وشتمه على المنبر: ولّي هشام بن إسماعيل المخزومي على المدينة، وكان يؤذي الإمام زين العابدين عليه السلام ويشتم الإمام علياً عليه السلام على المنبر وينال منه. وقد دأب سائر الولاة على المدينة بصب الأذى والمكروه على الإمام زين العابدين عليه السلام.

2 قصد قتل الإمام عليه السلام أو سمّه: روى الطبري: لما كانت وقعة الحرة وأغار الجيش على المدينة وأباحها ثلاثة أيام، وجه بردعة الحمار صاحب يزيد بن معاوية في طلب علي بن الحسين عليه السلام ليقتله أو يسمّه

دور السيدة زينب عليها السلام في إستمرار الرسالة

لم تترك عقيله بني هاشم السيدة زينب الكبرى عليها السلام الرسالة الحسينية إلى آخر حياتها في مواطن عديدة، ومن تلك المواطن المدينة المنورة، فقد أخذت بدورها العظيم تجاه هذه المأساة، فكانت تحرض الناس على أخذ ثأر الإمام الحسين عليه السلام، وخلع يزيد بن معاوية، وخطبت بالناس في ذلك، وأثرت بحيث لم تتمكن السلطة من أن تتحمّل وجودها في المدينة، فبلغ بذلك عمر بن سعد، فكتب إلى يزيد يعلمه بالخبر، فكتب إليه أن فرّق بينها وبينهم، فأمر أن ينادي عليها بالخروج من المدينة والإقامة حيث تشاء، فقالت: “قد علم الله ما صار إلينا، قُتل خيرنا، وانسقنا كما تساق الأنعام، وحملنا على الأقتاب، فوالله لا خرجنا وإن أُهرقت دماؤنا”.

فقالت لها زينب بنت عقيل: “يا بنت عماه، قد صدقنا الله وعده، وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء، فطيبي نفساً، وقري عيناً، وسيجزي الله الظالمين، أتريدين بعد هذا هواناً، ارحلي إلى بلدٍ امن..” ، ثم اجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطفن معها في الكلام، وواسينها…ويدل هذا على مدى تأثير السيدة زينب عليها السلام في المجتمع بحيث أحست الزمرة الفاسدة بالخطر وقامت بنفيها عن المدينة.

ولما خرجت السيدة زينب عليها السلام من مدينة جدها، خرج معها نساء بني هاشم، وفاطمة ابنة أختها، وأختها سكينة..

وهكذا كانت حركة المسيرة المظفرة، وهذا هو تاريخ الركب الحسيني الطاهر، ولم تقم لبني حرب بعدهم قائمة حتى سلبهم الله ملكهم وقطع دابرهم وأورثهم اللعنة والخزي والعار إلى اخر الأبد، وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: “جنّبني دماء أهل البيت، فإني رأيتُ بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين” .

لانعلم كم كلمات الشكوى تمرّ بخاطر السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) حين كانت تبثّ آلامها وأحزانها عند قبر أخيها سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ؟ ممّا جرى عليها وعلى العائلة طيلة تلك الرحلة المُزعجة .
وما يُدرينا ..؟ بما قامت به طيلة تلك الرحلة !

فقط ما يتأكد لنا أنها أيقظت عشرات الآلاف من الضمائر الغافلة ، وأحيَت آلاف القلوب الميتة ، وجعلت أفكار المنحرفين تتغير وتتبدّل مائة وثمانين درجة على خلاف ما كانت عليه قبل ذلك !

كلّ ذلك بسبب إلقاء تلك الخطَب المفصلة ، والمحاورات الموجزة التي دارت بينها وبين الجانب المناوئ ، أو الافراد المحايدين الذين كانوا يجهلون الحقائق ولا يعرفون شيئاً عن أهل البيت النبوي الطاهر .

وتُعتبر هذه المساعي من أهمّ إنجازات السيدة زينب الكبرى ، فقد أخذوها أسيرة إلى عاصمة الأمويّين ، وإلى البلاط الأموي الذي أُسس على عداء أهل البيت النبوي من أول يوم ، والذي كانت مواده الإنشائية ـ يوم بناء صرحه ـ من النصب والعداء لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومكافحة الدين الإسلامي الذي لا ينسجم مع أعمال الأمويين وهواياتهم .

عقيله بني هاشم الصابرة المحتسبة وبطلة كربلاء المقدسة السيدة زينب عليها السلام أخذوها إلى مقر ومسكن طاغوت الأمويّين ، وبمحضر منه ومشهد ، ومسمع منه ومن أسرته . خطبت السيدة زينب تلك الخطبة الجريئة ، وصبت جام غضبها على يزيد لعنه الله ، ووَصَمته بكلّ عارٍ وخِزي ، وجعلت عليه سبّة الدهر ، ولعنة التاريخ !!

نعم ، قد يتجرأ الإنسان أن يقوم بمغامرات ، إعتماداً على القدرة التي يَملكها ، أو على السلطة التي تُسانده ، وأمثال ذلك
ولكن ـ بالله عليك ـ على مَن كانت تعتمد السيدة زينب الكبرى في مواجهاتها مع أولئك الطواغيت ، وفاقدي الضمائر والوجدان ، والسُكارى الذين أسكرتهم خمرة الحكم والإنتصار ، مع الخمرة التي كانوا يشربونها ليلاً ونهاراً ، وسراً وجهاراً ؟؟!
هل كانت تعتمد على أحد غير الله تعالى ؟!

ويُمكن أن نقول : إنها قالت ما قالت ، وصنعت ما صنعت ـ في إصطدامها مع الظالمين ، أداء للواجب ، وهي غير مُبالية بالعواقب الوخيمة المحتملة ، والأضرار المتوقعة ، والأخطار المتّجهة إلى حياتها .. فليكن كلّ هذا . فإن الجهاد في سبيل الله محفوف بالمخاطر ، والمجاهد يتوقع كل مكروه يُحيط به وبحياته .

ونقرأ في بعض كتب التاريخ : أنّ قافلة آل الرسول مكثت في كربلاء مدّة ثلاثة أيام ، مشغولة بالعزاء والنياحة ، ثم غادرت كربلاء نحو المدينة المنورة .

وصلت السيدة زينب الكبرى إلى وطنها الحبيب ، ومسقط رأسها ، ومهاجَر جدّها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكانت قد خرجت من المدينة قبل شهور ، وهي في غاية العز والإحترام بصُحبة سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الحسين عليه السلام وإخوتها ورجالات أسرتها ، واليوم قد رجعت إلى المدينة وليس معها من أولئك السادة الكرام الاطهار سوى ابن أخيها الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) فرأت الديار خالية مِن آل الرسول صلى الله عليه وسلم العترة الشريفة الذكية الطاهرة ، وترى ديارَ أميةٍ معمورةً وديار أهل البيت منهم خالية.

وجاء في التاريخ : أنّ السيدة زينب (عليها السلام) لمّا وصلت إلى المدينة توجّهت نحو مسجد جدّها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعها جماعة من نساء بني هاشم ، وأخذت بعُضادَتي باب المسجد ونادت : «يا جدّاه ! إنّي ناعية إليك أخي الحسين» !! ، وهي مع ذلك لا تجفّ لها عبرة ، ولا تفتُـرُ عن البكـاء والنحيـب .

إنّ الأعداء كانوا قد منعوا العائلة عن البكاء طيلة مسيرتهنّ من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ، وهنّ في قيد الأسر والسَبي ، حتى قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) «إن دمعت من أحدنا عينٌ قُرع رأسه بالرمح» والآن .. قد وصلت السيدة إلى بيتها ، وقد ارتفعت الموانع عن البكاء ، فلا مانع أن تُطلق السيدة زينب عليها السلام سراح آلامها لتنفجر بالبكاء والعويل ، على أشرف قتيل وأعز فقيد ، وأكرم أسرة فقدتهم السيدة زينب في معركة كربلاء ، وخاصةً إذا اجتمعت عندها نساء بني هاشم ليُساعدنها على البكاء والنياحة على قتلاها ، وحضرت عندها نساء أهل المدينة ليُشاركنها في ذرف الدموع ، ورفع الأصوات بالصراخ والعويل .

والبلاغة والحكمة تتطلّب من عقيله بني هاشم السيدة زينب أن تتحدّث عمّا جرى عليها وعلى أسرتها طيلة هذه الرحلة ، من ظلم يزيد لعنه الله وآل أبي سفيان وعملائهم الأرجاس الأنذال ، وتتناوب عنها السيدات الهاشميات اللاتي حضرن في كربلاء ونظرن إلى تلك المآسي والفجائع ، وشاهدن المجازر التي قام بها أتباع الشياطين من بني أمية .

كانت النسوة يخرجن من مجلس العزاء وقد احمرت عيونهن من كثرة البكاء ، وكلّ امرأة مرتبطة برجل أو أكثر ، من زوج أو أب أو أخ أو إبن ، وتقص عليهم ما سمعته من السيدة زينب (عليها السلام) من الفجائع التي وقعت في كربلاء وفي الكوفة ، وفي طريق الشام ، وفي مجلس يزيد ، وفي مدينة دمشق بصورة خاصّة .

كان التحدّث عن أي مشهد من تلك المشاهد المؤلمة يكفي لأن تمتلئ القلوب حقداً وغيظاً على يزيد لعنه الله وعلى من يدور في فَلكه ، وحتى الذين كانوا يحملون الحب والوداد لبني أمية ، إنقلبت المحبة عندهم إلى الكراهية والبغض ، كما وأنّ الذين كانوا يُكنون الطاعة والإنقياد للسلطة الحاكمـة صـاروا على أعتاب التمـرد والثورة ضـدّ السلطة .

وقد جاء في التاريخ : أنّ سيدنا عبد الله بن جعفر وزوج السيدة زينب عليهما السلام كان جالساً في داره يستقبل الناس الذين يريدون أن يعزوه باستشهاد الإمام الحسين وأهله وأصحابه (عليه السلام) واستشهاد ولديه فلما اجتمعوا عنده قال: الحمد لله عزّ وجلّ على مصرع الحسين، إن لم تكن يداي واست حسيناً فقد واساه ولداي، والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنّه لممّا يُسخي بنفسي عنهما، ويهون عليّ المصاب بهما، أنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي، مواسين له صابرين معه

ومن الطبيعي أنّ الأخبار كانت تصل إلى حاكم المدينة ، وهو من نفس الشجرة التي أثمرت يزيد لعنه الله وأباه وجده ، فكان يرفع التقارير إلى يزيد لعنه الله ويُخبره عن نشاطات السيدة زينب عليها السلام، ويُنذره بالإنفجار ، وانفلات الأمر من يده ، قائلاً : «إن كان لك في المدينة حاجة فأخرج منها زينب عليها السلام» .

هؤلاء يزيد لعنه الله وأهله وأصحابه وأتباعه جُبناء ، يحكمون على نصف الكرة الأرضية ويخافون من بكاء إمرأة لا تملك شيئاً من الإمكانات والإمكانيات .

إنهم يعرفون أنفسهم ، ويعرفون غيرهم ، يعرفون أنفسهم أنهم يحكمون على رقاب الناس ، ويعرفون أنّ غيرهم يملكون قلوب الناس .

من المؤسف المؤلم أن يُحسَب هؤلاء الظلمة مِن المسلمين ، وأن تُحسَب جناياتهم على الدين الإسلامي .

وأيّ إسلام يرضى بهذه الجناية التي تقشعرّ منها السماوات والأرض ؟!
هل هو إسلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
أم إسلام بني أميّة ؟!
إسلام يزيد بن معاوية ، وعمر بن سعد ، والدعيّ بن الدعيّ عبيد الله بن زياد ؟!!

ولا مانع لدى يزيد لعنه الله أن يأمر حاكم المدينة بإبعاد السيدة زينب عليها السلام مِن مدينة جدها الرسول صلى الله عليه وسلم .

ولكن السيدة زينب رضي عنها وأرضاها إمتنعت عن الخروج من المدينة ، وكأنّها لا تَهاب الموت ، ولا تخاف مِن أي رجس من أولئك الأرجاس .

وهل يستطيع الأعداء أن يَحكُموا عليها بشيء أمر من الإعدام ؟
فلا مانع ، فلقد صارت الحياة مبغوضة عندها ، والموت خير لها من الحياة تحت سلطة الظالمين .

إنّها تلميذة مدرسة كان أساتذتها يقولون : «إنّي لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا بَرَماً» .
وتحدّت السلطة الظالمة ، وأعلنت إمتناعها عن الخروج من المدينة . ولكنّ عدداً من السيدات الهاشميات إجتمعن عندها وذكّرنها بيزيد لعنه الله وطغيانه ، وأنّه لا يخاف من الله تعالى ، ومن الممكن أن تتكرر فاجعة كربلاء ، بأن يأمر الوالي بإخراج السيدة زينب رضي عنها وأرضاها من المدينة قَسراً وجَبراً ، فيقوم بعض من تبقّى من بني هاشم لأجل الدفاع ، وتقع الحرب بين الفريقين ، وتُقام المجزرة الرهيبة .

فقرّرت السيدة زينب (عليها السلام) السفر إلى بلاد مصر .
ولماذا اختارات مصر ؟
إنّ أحسن بلاد الله تعالى عند السيدة زينب ـ بعد المدينة المنوّرة ـ هو مصر ، لأنّه كان لآل رسول الله في بلاد مصر رصيدٌ عظيم .. من ذلك الزمان إلى هذا اليوم . والسبب في ذلك أنّ أفراداً من الخط المُوالي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا قد حكموا مصر في تلك السنوات ، أمثال : قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ، ومحمد بن أبي بكر ، وأخيراً مالك الأشتر النخعي .

وخرجت الحوراء زينب عليها السلام من المدينة كرهاً، في أواخر شهر ذي الحجة سنة 61 للهجرة أي قبل أن يحول الحول على قتل أخيها الحسين عليه السلام ومعه إبنتاه فاطمة وسكينة، قاصدة مصر. بعد أمر يزيد لعنه الله بن معاوية الأموى، بإخراج السيدة زينب بنت الإمام على بن أبى طالب عليهما السلام، خارج حدود المدينة، طالبًا منها أن تختار لها بلدًا تسكن فيه، بعد أن أصبح بقاؤها يؤجج نيران الثورة ضد الخلافة الأموية، فأبت فى أول الأمر وقالت «أأترك بلد أبى وجدى»، فقال لها عبد الله بن عباس عليهما السلام «يا ابنة بنت رسول الله ، اذهبى إلى مصر، فإن فيها قومًا يحبونكم لله، ولقرابتكم لرسول الله، وإن لم تجدى أرضًا تسكنيها هناك، فستجدين قلوب أهلها وطنًا».

فاختارت عقيله بني هاشم وبطلة كربلاء السيدة زينب عليها السلام مصر لتقيم فيها، لتكون أول نساء أهل البيت اللاتى شرفن أرض مصر بالمجيئ إليها، ووصلت إليها فى شعبان عام 61 هجرية، وعلى مشارف مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، خرج لاستقبالها جموع المصريين بالدفوف والزغاريد ، وعلى رأسهم والى مصر الأموى آنذاك مسلمة بن مخلد الأنصارى، وأقامت فى بيت الوالى حتى وافتها المنية فى الـ 14 من شهر رجب عام 62 هجرية، ودفنت فى بيت الوالى، الذى تحول إلى مسجد فيه مقامها الشريف لها فيما بعد.

فقد حظيت مصر بشرف دعاء السيدة زينب بنت على رضى الله عنهما لأهل مصر عندما قدمت إليها لما رأت هذا الاستقبال الهائل دعت لأهل مصر وقالت: يا أهل مصر ، نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، وجعل لكم من كل مصيبة فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا”، ستظل هذه الدعوات المباركات حصنًا وملاذًا لكل المصريين،

الكاتب المصري والمؤرخ الإسلامي

قلم وصوت ومحام آل البيت

الشريف عبدالرحيم أبوالمكارم حماد

إبن السلطان محمد شمس الدين ابوهارون

الإدريسي الحسني العلوي الهاشمي القرشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى